أحمد الشملان.. صلابة المناضل ورهافة المبدع

0
163

عندما يرحل عنّا الأحبة، خاصة، تحضر في أذهاننا، من مستودع الذاكرة، حكايات وذكريات جمعتنا معهم في مراحل مختلفة من حياتنا المشتركة. فكيف عندما يكون الراحل هو أحمد الشملان بكل ما يُمثله، وبكل ما به من أبعاد، الشملان الإنسان، والشملان المناضل، والشملان الشاعر والأديب، والشملان الرفيق والصديق، ففي شخصه تعدد الشخوص في نسيج فريد من نوعه.

قبل عودتي إلى الوطن عام 2001، من الغربة الطويلة، يمكنني القول إن لقاءاتي مع “أبوخالد” ليست كثيرة ومتباعدة، ولكنها، على قلتها، مكتنزة بالذكريات. لكن الذي أذكره جيداً أن أول لقاء وجهاً لوجه مع أحمد الشملان كان على الأرجح في عام 1974، في جلسة سمر أدبي في منطقة الهورة قريباً من سلماباد، يوم كانت فضاءاً مفتوحاً، وهي جلسة سمر اسبوعي اعتدناها معيّة الاصدقاء الشعراء: علي عبدالله خليفة، الشهيد سعيد العويناتي، المرحوم علّام القائد، إيمان أسيري، والقاص والروائي عبدالقادر عقيل، والقاص والروائي الراحل عبدالله علي خليفة وربما أخرين أيضاً لم أعد أذكرهم، تشمل قراءات شعرية ومناقشات أدبية ودردشات عامة، حيث دعا علي خليفة أحمد الشملان الذي كان قد أفرج عنه من المعتقل قبل شهور قليلة إلى واحدة من هذه الجلسات، وأذكر أنه ألقى، بدوره، شيئاً من شعره في تلك الأمسية. كان اسم الشملان ودوره حاضرين في ذهني حتى قبل هذا اللقاء، لكن أن تجالسه وتستمع إلى أحاديثة أمر مختلف.

بعدها بشهور غادرت أنا إلى القاهرة للدراسة، وكان الشملان وقتها قد أعيد اعتقاله في يونيو من السنة ذاتها، ليغادر بعد الإفراج عنه إلى موسكو لمواصلة دراسته، إلى أن التقينا ثانية في المؤتمر العام للاتحاد الوطني لطلبة البحرين الذي عقد في بغداد شتاء 1976، حيث كان أبو خالد ضمن وفد فرع الاتحاد في موسكو الذي جاء للمشاركة في أعمال المؤتمر، إلا أن من أهمّ اللقاءات التالية التي جمعتنا كانت في دمشق في 1981، التي أتاها الشملان من موسكو بعد تخرجه من الجامعة، حيث كُلفنا، معاً، بإعداد مسودة برنامج سياسي جديد للتنظيم، عكفنا عليه فترة ليست قصيرة، وفي السنة نفسها التقينا في الكونفرنس الحزبي لجبهة التحرير الذي عقد في مدينة أبيّن بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، حيث شارك أبو خالد بفعالية في مناقشاته، وما زلت أذكر أمسيات تلك الأيام القليلة، حيث كنا، نحن الحضور، نجلس في الفضاء الخارجي توخياً لبعض النسمات في ذلك الجو الحار، نتبادل الأحاديث، وكان صوت أبو خالد يصدح بشكل جميل بأغنيات فيروز التي يحفظها، قائلاً لنا إن هذا كان يحدث أيضاً في ليالي اعتقاله الطويلة مع رفاقه فيما مضى من سنوات.

قبل إصابته بالجلطة الدماغية التقيت بالشملان، معيّة أصدقاء مشتركين لنا، في الإمارات، التي أصبحت أعيش وأعمل فيها في تلك الفترة بعد منعي من دخول البحرين، وأتاح لي ذلك مطالعة المقال اليومي لأحمد الشملان في جريدة “الخليج” الذي كان ينشر في صحف خليجية أخرى أيضاً، بيها “أخبار الخليج” البحرينية، بعنوان “أجراس”.

وأتى ابوخالد الإمارات في زيارة قصيرة، وفي أكثر من لقاء جمعنا فيها، وجدته على ما عهدته فيه من دماثة الخلق وصلابة الموقف وتنوع الاهتمامات،  ثم وصلتنا الأخبار المحزنة عن مرضه وفقدانه القدرة على النطق، قبل عودتي إلى البحرين بسنوات قليلة، وحين انتخبت أميناً عاماً للمنبر التقدمي في مؤتمره الثاني بديسمبر 2002، كان أبو خالد حينها قد اختير، قبل عام، في المؤتمر الأول، رئيساً فخرياً للتقدمي، وهكذا جمعتني به عشرة أعوام متواصلة من العمل المشترك في التنظيم، حيث كنت أقف بجواره دائماً في الفعاليات والاحتفالات التي يحرص أبو خالد على حضورها وتولي تكريم المشاركين فيها.

ومن المحطات التي نعتزّ بها، أنا ورفاقي في “التقدمي”، مهرجان “أيام أحمد الشملان” الذي أقمناه في الفترة بين 14- 25 نوفمبر 2009 احتفاء بالشملان، وعملت على تنظيمه وإنجاح فعالياته لجنة تحضيرية برئاسة المايسترو خليفة زيمان، وهو مهرجان سياسي وثقافي نظمّ برعاية مشكورة من مؤسسات إعلامية مرموقة في البلاد، واشتمل المهرجان الذي توزعت فعالياته بين  مقر “التقدمي” بمدينة عيسى، وقاعة الشيخ عيسى بن سلمان بنادي الخريجين على أنشطة متنوعة من ندوات فكرية وأدبية شارك فيها شخصيات سياسية وإعلامية وثقافية معروفة، وأمسية شعرية ألقي فيها بعض أبرز شعراء البحرين ومثقفيها نصوصاً شعرية من دواوين أحمد الشملان، وقدّمها الفنان عبدالله يوسف، وحفل موسيقي وغنائي أحياه عدد من أبرز الفنانين والموسيقيين البحرين، وافتتح المهرجان بمعرض فني تشكيلي لعدد من الفنانين التشكيليين البحرينيين الذين عرضوا لوحاتهم المستوحاة من سيرة احمد الشملان وحياته الحافلة بالمحطات النضالية والإنسانية، كما حوى المعرض بعض مقتنيات “أبوخالد”،  وكان هذا المهرجان، عن حق،  تظاهرة للثقافة الديمقراطية في البحرين، بتعدد وتنوع فعالياته النابعة من تعدد وتنوع اهتمامات احمد الشملان نفسه، فشخصيته الثريّة أضفت ثراءها على الحدث، بتنوع انشغالاته بالسياسة والفكر والقانون والفلسفة والأدب والشعر، وتظهر هذه المساهمات في كتاباته ونتاجاته الشعرية والأدبية التي لا يمكن فصلها عن موقفه النضالي الذي طبع حياته منذ صباه حتى اليوم. ومن روائع الصدف أن تزامن موعد هذا المهرجان مع صدور العمل الموسوعي الكبير الذي عكفت زوجة الشملان ورفيقة دربه الأستاذة فوزية مطر، الكاتبة والتربوية والناشطة النسوية المعروفة، على جمع مادته وكتابته خلال سنوات من العمل الدؤوب والمثابر، وقدّم إضافة مهمة في التعريف بتاريخ حركتنا الوطنية.

***

 أي وجه من وجوه أحمد الشملان علينا أن نقارب؟

وجه المناضل الصلب العنيد، وجه الشاعر والأديب المرهف، وجه الكاتب الصحافي في سجالاته الجريئة، وجه المحامي الذي يصعب أن تفصل بينه وبين داعية حقوق الإنسان الذي جعل من المهنة وسيلة دفاع عن الحرية والحق؟

أحمد الشملان هو كل ذلك وأكثر، إنه ذلك التكوين الإنساني العجيب في نسيج واحد، وإن تعددت أوجهه. ويمكن لنا أن نتحدث عن مراحل الشملان العمرية، وتحوّلاته السياسية والفكرية، عن أحمد الشملان الشاب اليافع وأحمد الشملان وقد أنضجته التجربة الحياتية والنضالية والإنسانية، ولكننا في كل الأحوال سنظل أمام تلك الروح النضالية المتقدة التي ظلت كما هي دائما.

طوّر أحمد الشملان مواقفه السياسية والفكرية تبعاً لتجربته الغنية، ولكن من موقع الالتزام النضالي العميق، وهو في هذا التطوير إنما كان يُعمق خياراته السياسية والفكرية والنضالية والإنسانية، وينفتح على آفاق أرحب في الفكر وفي الحياة وفي النضال ذاته.

التجربة النضالية هي دليل الشملان الى الوعي، حين حوّل انحيازه الوطني الذي جبل عليه منذ صباه إلى عملٍ سياسي نضالي واع منظم، وحين أدرك أن لا حركة ثورية دون نظرية ثورية، وقرن هذا الإدراك بالفعل، فأثرى ممارسته النضالية بالوعي النظري، وحين جعل من هذا الوعي عملاً نضالياً لا ترفاً تنظيرياً.

ولا يمكن كتابة تاريخ الحركة الوطنية الحديث دون الوقوف أمام دور أحمد الشملان الشجاع والمتفاني في نضال هذه الحركة، فعلى الدوام كان أحمد الشملان في قلب النضالات الوطنية والعمالية والنقابية، منافحاً عنيداً عن حقوق الشعب، ولم يتردد أو يتوانى لحظة في دفع ضريبة ذلك بالسجن أو النفي، دون أن يفت ذلك من عضده، ودون أن تهون إرادته أو تضعف، يخرج من السجن فيستأنف نضاله، ليعود إليه بعد حين لا يطول، ورغم تكرار ذلك ظلّ أحمد الشملان هو نفسه بشجاعته وعزيمته وإرادته التي لا تلين.

سنجد أحمد الشملان، هذا المناضل والإنسان الصلب، حاضراً بعزيمته الفولاذية في نضالات الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات، وسنجده، لاحقاً، حاضراً في الظروف المستجدة، بمكانته الكفاحية والمعنوية العظيمة على رأس المنبر التقدمي، حيث لم يمنعه مرضه من أن يكون حاضراً معنا في أنشطتنا وعملنا اليومي مُلهماً ومّعضدا، منه ومن سيرته تعلمنا الكثير وسنظل.

و إلى ذلك كله، فان أحمد الشملان هو الشاعر والأديب المهتم بالنقد والمسرح وصنوف الكتابة الإبداعية الأخرى، والكاتب اليومي في الصحافة المحلية والخليجية، الذي من خلال كتابته تصدى لمعالجة قضايا النضال من أجل الديمقراطية في البحرين وفي بلدان الخليج الأخرى، وكذلك نضال الشعوب العربية ضد الامبريالية والصهيونية والرجعية، متابعاً ومُحللا أثر المستجدات الدولية والإقليمية على هذا النضال، دون أن تتزحزح قناعته في عدالة القضية التي يناضل في سبيلها، ودون أن يفقد ولو للحظة التفاؤل في المستقبل، لأنه، في نهاية المطاف، لا يصح إلا الصحيح.

وأحمد الشملان هو أيضاً الإنسان المرهف المحب للموسيقى والفن، الذي كتب كلمات الأغاني والأناشيد الوطنية والابرويتات الغنائية التي قُدمت في الكثير من المناسبات، لذلك فان تنوع فعاليات “أيام الشملان” يبرز ما في شخصيته من تنوع إبداعي ونضالي وإنساني.

أحمد الشملان، الذي سنظل نفخر بأنه كان الرئيس الفخري لمنبرنا التقدمي ، منذ تأسيسه، قامة من قامات هذا الوطن، بشموخ نخيل البحرين وكبريائها، في شخصه تتلخص مآثر جيل من قادة ومناضلي الحركة الوطنية البحرينية، وفي عطائه الإبداعي نلمس ذلك الوهج الإنساني الذي أضاء عتمة الوطن في مراحله الصعبة، لذا فان الاحتفاء به هو احتفاء بكل القيم والمعاني التي يختزنها شخصه، وهو إبراز للبديل الديمقراطي الذي عليه تنعقد الآمال في المضي بوطننا نحو آفاق التغيير الحقيقي المنشودة، آفاق البناء الديمقراطي الحقيقي والمساواة والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية.

في 24 فبراير 2001، بعد التصويت على ميثاق العمل الوطني وما تلاه من انفراجٍ سياسي كتبت فوزية مطر مقالا في جريدة “الأيام” بعنوان: “بعض أحلامك يا أحمد”، قالت فيه: أحمد… أراكَ اليومَ كما رأيتك دوما وكما رآك كل الوطنيين والشرفاء في هذا الوطن العظيم، جبلُ الدخان العتيد الراسخ في البحرين الصغيرة الشامخ الذي لا تخطئه ولا تُنكره العين ولا الفكر والوجدان… هذه بعض آمالك وأحلامك يا أحمد تتحققُ اليوم على أرض الواقع… هذه بعض من ثمار نضالك وتضحياتك مع غيرك من الطيبين والشرفاء على امتداد بحريننا العظيمة. بكل الصدق والإخلاص والنقاء ناضلت من اجل الحق الذي لم ترد به باطلا أبداً، متجردا من أي غرض أو مصلحة ذاتية.

صدقتِ يا أم خالد، ونحن معك نقول: حقٌ لأحمد الشملان وجيله أن يعرف أبناء اليوم مقدار ما قدموه من تضحياتٍ جليلة في الأزمان السود. حقّ لأحمد أن يُحفر اسمه على جبينِ هذا الوطن بحروفٍ من ذهبْ، وهذا ما كان وسيبقى.