التطرف في الحياد

0
27

تقاطعات أخرى بين الشرق والغرب

وأنا أقرأ في سيرة الراهب والفيلسوف إيرازموس (1469-1536م) الأب الروحي لفكرة الإصلاح الديني في أوروبا والمناهض للتعصب والعنف، الإنساني الكبير والمحايد الأكبر. تذكرت الفصل الذي تناول فيه أحمد أمين من كتاب فجر الإسلام موضوع المُرجئة (حدود القرن السابع الميلادي) وفكرهم الحيادي الذي يتقاطع مع فكر إيرازموس مع اختلاف البيئة والزمان والظرف السيا/جتماعي، وبطبيعة الحال فإن المرجئة أسبق من إيرازموس بأكثر من سبعة قرون من الزمن.

طمح إيرازموس عن طريق الفكر والتنظير أقل من الفعل لأن يقيم إصلاحاً للمنظمومة الدينية الكاثوليكية بنعومة وحرص شديد، تميز إيرازموس بنزعته الإنسانية المشفقة وتقبّله للمختلف ومد الجسور حتى مع من كانوا من الوثنيين،وعمل على هذا الإصلاح من داخل المنظومة نفسها أي من نفس المنطلقات العقائدية الكاثوليكية في حين رأى بعض تلامذته أن ما يفعله إيرازموس من تنظير لن يؤدي الى شيء مالم يتحرك فعلياً على الأرض وبرغبة حازمة في التغيير.

رفض إيرازموس أي توجه ثوري صارم فيه عنف، فهو يرى عدم إمكانية حدوث إصلاح بالعنف لأن في تصوره أن العنف لا يؤدي إلا الى عنف مقابل وقد تحصل الفوضى والخراب وهو مناف لمفهوم الإصلاح الذي يحاكم ويتخلص من فساد المنظومة دون القضاء عليها أي بالتي إصلاحها لا استبدالها، إذن فقد رفض إيرازموس الثورة والنضال وأي شكل من أشكال العنف، ومن هنا بدأت مأسات إيرازموس.

مع اشتداد الحركة النضالية الإصلاحية بقيادة الراهب الثائر مارتن لوثر، في جهة أخرى من ألمانيا كان إيرازموس  بنادي بمبدئه الذي يتبنى اللاعنف حد التطرف وهو على العكس تماماً من مواطنه الآخر أعني لوثر، إشتدت الثورة الإصلاحية واشتد الحماس الى الحد الذي وصف فيه لوثر إيرازموس بأقذع الشتائم وذلك لرفضه الإنضمام معهم في الحركة الإصلاحية وهو المنظّر الأول لها، ومن جهة أخرى وضعته الكنيسة الكاثوليكية ضمن قائمة المحضورات، كان ايرازموس متطرفاً  في الحياد أيضاً حتى أنه في غمرة احتدام النزاع والإصطفافات والتحالفات آثر استقلاليته وعدم اصطفافه مع أي أحد من الفرق المتنازعة إضافةً الى تمسكه بمبدأ اللاعنف.

قد نلحظ في الشرق ما قد يتقاطع مع فكر إيرازمس في الغرب بشكل لافت، في احتدام الفتنة الكبرى في القرن الأول الإسلامي  وبداية البوادر الأولى لنشوء الفِرَق والمذاهب والإلتفاف وفق عقائد مذهبية/سياسية، ظهرت فرقة تبنت الحياد، اختار المرجئة الحياد على الوقوف مع أي فرقة من الفرق التي نشأت على أعقاب الفتنة الكبرى؛ والمرجئة اصطلاحاً مِن أرجأ بمعنى أمهل وأخّر، سُموا كذلك لأنهم يرجئون أمر المختلفين في عصر الفتنة الكبرى (سياسياً/مذهبياً) الى الله يحكم بينهم، دون أن يصطفوا مع طائفة دون أخرى أو أن يكفّروا طائفة أو أخرى في زمن كانت كل فرقة تقول عن نفسها أنها الفرقة الناجية وماسواها في ضلال وظهرت أحاديث نُسبت للنبي (ص) من قبيل حديث الفرقة الناجية…الخ.

على هذا النحو بُني توجه المرجئة السياسي، وبناءً عليه -كما حصل مع بقية الفرق- أصبحت لهم منظومة لاهوتية تدعم توجههم السياسي تنص على عدم التكفير بالمطلق… فالإيمان عندهم قلبيّ ولايطّلع على خفاياه إلا الله سبحانه، جميع أصحاب الفرق عندهم مؤمنون (شيعة، خوارج، أموييون…الخ)،بل ويتسع الإيمان عندهم ليشمل النصارى واليهود بل حتى الوثنيون: “إن الإيمان هو الإعتقاد بالقلب وإن أعلن (شخص) الكفر بلسانه، وعبد الأوثان أو لزم اليهودية والنصارانية في دار الإسلام(…) ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل، وليّ لله عز وجل، ومن أهل الجنّة” (أحمد أمين/ فجرالإسلام ص364)، أراد المرجئة بذلك مسالمة الناس جميعاً وهو فعلٌ متطرف في الحياد في زمن النزاعات والصراعات المحتدمة، وهذا يذكرنا كثيراً بالمذهب الذي تبناه إيرازموس في الغرب بعد مايقارب سبعة قرون.

وعلى طريقة المرجئة في اللاهوت كان إيرازموس يرى أن الإنسان لايحسم درجة إيمانه إلا في سريرته وحدها عن طريق تجربته الروحية الفردية وسلوكه الإنساني (المسيحي) في الحياة،”إن السلوك الذاتي في الحياة تبعاً لروحانية المسيح أهم من الحرص الحقيقي على الطقوس والصلوات،وعلى الصيام وحضور القداديس(…) الخلاصة الجوهرية لديننا هي السلام والوفاق” (زفايغ/ من يقطف ثمار التغيير؟ ص84) 

ولكن ما الذي حدث تاريخياً لهذين المذهبين الحياديين المرجئة وإيرازموس؟ بعد حين اندثر مذهب المرجئة وذاب في الفرق التي نشأت لاحقاً، الفرق الأكثر جرأه وتمرد من الفلاسفة والمتكلمين كالمعتزلة وإخوان الصفا وغيرهم، وأصبح المرجئة بلا ذِكر إلا فيما ندر، وعاش إيرازموس محاصراً وفي عزلة تامة وصار في خلفية المشهد الإصلاحي بعيداً متوارياً عن الأنظار لايكاد يُذر ولايُعرف تاريخياً، على عكس لوثر الذي حمل أفكار إيرازموس ذاتها وأعطاها طابعاً ثورياً، وكالفن الذي أسس فيما بعد دكتاتورية دينية هي نفسها التي بدأت ثورية إصلاحية. في حديثه عن إيرازموس يقول ستيفان زفايغ:”التاريخ ظالمٌ في حق المنهزمين. هو لايحب كثيراً رجال الإعتدال، وسطاء  الوفاق والتصالح، الرجال ذوي الطبيعة الإنسانية. والمفضلون لديه عم هم الإنفعاليون المتّقِدون، المفرِطون، المغامِرون، عتاة الفكر والفعل. لذلك لم يمنح خادم الإنسانية الصامت هذا سوى نظرةٍ عابرةٍ لاتخلو من ازدراء” (زفايغ/ من يقطف ثمار التغيير؟ ص25-26).