لا يستطيع أحدٌ أن يتجاهل أهمية العمل ومكانته في الحياة البشرية، خصوصاً، في حياتنا العصرية الحديثة. تلك الحياة، المليئة بالمهام والمسؤوليات، وأيضاً، بالطموحات الضرورية، التي تقوم بتأمين أساسيات الاستقرار والنهضة في عالم اليوم.
في الشأن العام البحريني، تبقى قضية العمل، هي الهاجس الأكبر للبحرينيين. هذه القضية، التي لم يتم قراءة فصولها وسياقاتها بشكلٍ صحيحٍ لحد الآن، وسنحاول في هذه المقالة، المقاربة الموضوعية إليها، من أجل أن يستكملها أصحاب الشأن والمسؤولية، فكرياً وسياسياً.
إن أزمة العمل في الحياة البحرينية، هي أزمةٌ بالغة التعقيد والأهمية، وتتطلب من البحرينيين المصارحة وتحمُّل المسؤولية، الذي لا يحتمل أبداً مواقف الجمود والأنانية. هذه المواقف، التي تراكمت من خلال الأسباب المختلفة؛ والاحترام مع الذات، وحده الذي يستطيع معالجة هذه الأزمة.
الجانب الاداري والسياسي، هو الجانب الأكثر تأثيراً في أزمة العمل البحرينية، وبعدها تأتي الجوانب المالية والمهنية والاقتصادية. وعندما نحاول قراءة الجوانب الأولى لهذه المسألة، نبدأ بمرحلة السبعينات مجدداً، حيث الاستقلال وبدايات الدولة، من خلال تكوين المؤسسات وبداية الاعتماد على الذات، أي على البحرينيين والقوى العاملة المحلية. وهنا نصل إلى الجوانب المهنية، من خلال دور القوى الوافدة، التي كانت حاضرةً دائماً في المؤسسات البحرينية، من أجل تسيير الحياة والعمل، في التخصصات المهنية المختلفة.
هذه الاضاءة التاريخية البسيطة، توضح أحد الأسباب لحضور القوى الوافدة في البحرين، على مدى العقود الطويلة الماضية؛ وإن أزمتنا الراهنة، قد أوصلتها الجوانب السياسية والادارية، من تاريخنا الحديث والمعاصر. ولا ننسى هنا، الاشادة والتقدير بالجهود الكبيرة، تلك التي تقدَّم بها الدكتور علي فخرو، خلال مرحلة التكوين الأولى للدولة؛ من أجل تدريب وتخريج الكوادر البحرينية المتخصصة، للعمل والخدمة في وزارة الصحة البحرينية، وبعدها أيضاً، في وزارة التربية والتعليم. وإن هذه الجهود المخلصة، قد عكست الارادة الهادفة والتوجهات النابضة بقيم التحديث والنهضة.
لا نستطيع أن نتجاوز في البحرين، دور الإرادة الرسمية والحكومية، خلال مراحل البدايات، في تعزيز حضور البحرينيين، في المؤسسات البحرينية المختلفة. ولكن الجوانب السياسية – بحسب تقديرنا – قد لعبت دوراً متوتراً على مسارات النهوض والتنمية، تلك التي لم تصل بعد إلى الاعتماد على الذات. ونتيجةً لكل ذالك، تمَّ الاستمرار في الاعتماد على القوى الوافدة، كنوعٍ من الخيارات المؤقتة، في ظل وجود الاضطرابات والعوامل السياسية، التي كانت حاضرةً دائماً في تاريخ البحرين الحديث.
إن التعريف بالمراحل الماضية، بتجاربها وتعقيداتها، يساهم كثيراً، في فهم ومعالجة الأزمات الحاضرة. وبالرغم من صعوبة تلك المراحل، وما حملتها من تكاليف باهضة؛ تبقى تكلفة التراجع عن قيم المصلحة البحرينية والمصلحة العامة، هي التكلفة الأغلى في حياة البحرينيين ووجودهم. والتهاون الكبير في ثقافة الانتماء والعدالة، كانت ولا زالت، سبباً رئيسياً لتراجع البحرينيين عن طموحاتهم في الحياة الكريمة. هذا الانتماء، الذي يعكسه الاخلاص في تعزيز قيم الخير العام، وبمنطق الكفاءة والمهنية؛ الذي يرتقي عن المفاهيم الفئوية والمذهبية، تلك التي تدعمها العادات والتقاليد السيئة، في الثقافة الاجتماعية. وصورة العدالة هنا، تتمثل في احترام التعددية الثقافية والاجتماعية، التي نفتخر بوجودها دائماً في هويتنا البحرينية.
الجانب المالي في أزمة العمل البحرينية، هو أحد الأوجه الواضحة لهذه الأزمة، من خلال الاستثمار في “العمالة محدودة الأجر” لزيادة الأرباح لأصحاب العمل؛ وذالك للإختلاف الكبير بين رواتب القوى البحرينية وبين القوى العاملة الأجنبية. وهذه الأزمة، متواجدة منذ عقود طويلة، وهي بحاجة إلى النظرة الشاملة، من أجل معالجتها بالطريقة الصحيحة والعادلة.
التداخل الكبير بين الاقتصاد والسياسة، يحمل دوراً كبيراً في أولوية توظيف البحرينيين، في الأعمال والمهن المختلفة. والمصالح المالية والعوامل السياسية، تحمل من التأثيرات المهمة والمكلفة، التي يدفعها البحرينيُّون غالياً من مكتسباتهم وحياتهم.
إن منظومة العمل في الحياة البحرينية، تفتقد كثيراً إلى القيم الاصلاحية، تلك التي تتمثل في برامج التخطيط والتنظيم، الاداري والاقتصادي، لحماية الأولويات والمصالح البحرينية. وهذه البرامج، من المسؤوليات السياسية الواضحة، والتي تمَّ نسيانها لحساباتٍ بعيدةٍ جداً، عن النضج والتفكير في المستقبل.
مشاريع الاصلاح والتطوّر، تتطلب الكثير من الوعي وتحمُّل المسؤولية، على الأفراد والمواطنين، وأيضاً على الجهات الحكومية. وهنا سنحاول الاضاءة على أحد البرامج الهادفة، التي تساهم بتطوير مكانة العمال البحرينيين، على المستوى المهني والثقافي، والذي سيحمل الكثير من النتائج الايجابية، في المستقبل القريب والبعيد؛ من خلال تأسيس ورشات تدريبٍ عالية الجودة، لتعريف المنتمين الجدد بمنظومة العمل القادمة، عبر التعريف والاضاءة على معاني القيم المهنية، ومكانة الالتزام بالعمل بالنسبة للشخصية الإنسانية. وأيضاً، للتعريف بالأبعاد الادارية، وطريقة التواصل الحضارية، عند مواجهة المشكلات المتعلقة بالعمل. إن هذه الورشة التدريبية، ستحمل أثراً كبيراً في دعم مكانة البحرينيين في سوق العمل، وسيكون المشاركين فيها من جميع الخريجين، للتخصصات المهنية المختلفة، وتحت إشراف المدربين الاكاديميين، في وزارة العمل البحرينية.
التأصيل لثقافة المهنية والعدالة في منظومة العمل البحرينية، يساهم كثيراً في زيادة الكفاءة والإنجاز، على مستوى المجتمع والدولة؛ من خلال تربية الذات والأبناء – عن دور ومكانة العمل – في تعزيز معاني الاخلاص والخدمة، لمبادئ الانتاج وقيم الخير العام، بدلاً من النظرة التقليدية للجوانب المادية. وهذه التربية الهادفة، جديرةٌ بأن تكون عنواناً إلى النزاهة والشرف، في شخصية الإنسان.
إن مستقبل العمل في البحرين – على المدى المنظور والقريب – يحمل الكثير من المسؤوليات والتحدّيات، من أجل إصلاحه ومعالجته. وطموحات بحرنة الوظائف وتمكين البحرينيين، لن تتقدّم، خطوةً واحدةً إلى الأمام، من دون معالجة جذور الأزمات السياسية، بين أصحاب القرار في السلطة، وبين أحد المكوّنات الرئيسية في المجتمع البحريني. هذه الأزمات، المليئة بالانقسام وتراجع الثقة، وإصلاحها الحقيقي، يبدأ بوجود عقليةٍ وثقافةٍ جديدة؛ ترتقي عن الجمود والكراهية، وتعمل وفق مبادئ المصلحة العامة وتطلعات المستقبل.
أهداف التغيير وطموحات الاصلاح، لا تتحقق في هذه الحياة بسهولةٍ أبداً، وسيبقى، ينقصها دائماً، ذالك الحافز الذي يجعلها ترى النور في حياتنا؛ من خلال مسارات الوعي والشجاعة، تلك التي تنتمي إلى قيم التحديث والخير الإنساني.
منهجية التغيير أو البديل، من الضروري أن تبدأ اليوم في ثقافة البحرينيين وحياتهم؛ من أجل إدراك مسارات التراجع الكبيرة، على مستوى الإنسان والهوية والمصالح العامة. وإن الغد الأفضل، يكمن في الصدق مع الذات أولاً – ومن خلال العمل – على قيم النهوض والعدالة والانتماء، البحرينية حقاً.