انتفاضة الأقلام

0
3

قرأت – متأخّرة طبعاً – في مطلع الأسبوع الماضي مقالا للكاتب البحريني حسن مدن، بدا موضوعه غريبا بالنسبة لي عن “إضراب الكتاب في هوليود” في الأول من شهر مايو الماضي بسبب عدم وجود اتفاق مع الأستوديوهات والمنصّات الرئيسية، خاصة ما يتعلّق بزيادة رواتبهم. والذي جاء بالتوازي مع صعود استعمال تقنيات الذكاء الاصطناعي للكتابة، وهي تقنية تهدّد بشكل مخيف مهنة الكاتب.

لكن على ما يبدو فالأمر أهمّ من هذه الفرضية، خاصة أن لا فكرة لدي مثل كثيرين عن الإضرابات السابقة للكتّاب، والتي شهدتها هوليود وأشهرها إضراب 2007 – 2008 عندما أضرب أعضاء نقابة الكتّاب الأمريكية (WGA) حيث كان السبب الرئيسي وراء الإضراب الخلاف بين الكُتّاب وتحالف منتجي الصور المتحرّكة والتلفزيون (AMPTP) حول التعويض عن عملهم في المشهد المتغيّر لصناعة الترفيه. سعى الكتّاب للحصول على مدفوعات ومزايا أفضل لعملهم في العصر الرقمي، حيث أثّر ظهور منصّات البث عبر الأنترنت وقنوات توزيع الوسائط الجديدة بشكل كبير على نماذج الإيرادات التقليدية، وناقشوا بوضوح مسألة تعويضهم بالعدالة المناسبة لتزايد خدمات البث عبر الأنترنت وإعادة استخدام أعمالهم على أقراص DVD.

استمرّ وقتها الإضراب مائة يوم، مما تسبب في اضطرابات كبيرة في صناعة الترفيه، أدّى إلى توقف تروس مصانع الأحلام وتعثّر العديد من شركات الإنتاج السينمائي والتلفزيوني، وتأخُّر جداول الإصدار، فتمّ اتفاق حينها مع نقابة الكُتّاب الأمريكيين على عدد من الحلول وتمّ إنهاء الاضراب.

كانت الخسائر التي بلغت في القطاع التابع للوس أنجلوس فقط قد تجاوزت إثنين مليار دولاراً. تكرّر المشهد اليوم، وقد يعتقد البعض أن هذه الحركة الاجتماعية لا تهمُّ سوى نقابة الكتّاب الأمريكيين المعروفة بقوّتها في القتال من أجل تحسين ظروف أعضائها، وأن أوروبا وباقي مناطق العالم بما فيها عالمنا العربي لا تخضع لنفس القواعد، لكن الأمر غير ذلك تماما.

في حوار مع جون كوبلن وبروكس بارنز في النيويورك تاميز قال فيه أنه بإمكان المنصّات أن تشتري أفلاما وبرامج من دول أخرى، وتملأ فراغها، لكن بالنسبة للشركات المنتجة للبرامج التلفزيونية فالصمود لن يكون طويلا. خاصّة البرامج الصباحية والحوارية التي تبث ليلا، وهي أول ما يتأثّر بإضرابات الكُتّاب. والسبب أن هذه البرامج تجاري الأحداث، فيصعب تحضيرها سلفا بفترات طويلة، قد يندهش كثيرون من مقدار مساهمة الكُتّاب في صنع هذه البرامج، ولكن عادة ما تكون ملاحظاتهم ونكاتهم وموضوعاتهم ونصوصهم الفردية هي التي تجعل مقدّمي البرامج ينجحون في اكتساب مشاهديهم.

في عالمنا العربي يختلف تصنيف الكُتّاب، لدرجة أن كُتّاب السيناريو (سينما وتلفزيون) ومعدي البرامج التلفزيونية يعتقدون أنهم ليسوا كتّابا، فيما يصارع مؤلفو القصص والروايات والشعراء مصائرهم المشتركة منفردين أيضا، وكأنّ هذه المهنة على تعدّد ممارسيها لا تجمعهم وفق موهبة خلق الأفكار وصياغتها لغويا قبل أن تتحوّل إلى كتب وأفلام ومسلسلات وبرامج تلفزيونية.

لتقريب الصورة أكثر فقد قرّرت Netflix   مثلا أن تبدأ تصوير الموسم الرّابع من مسلسل “إميلي في باريس” بحلول أواخر الصيف أو أوائل الخريف، ولكن إضراب الكُتّاب فرض تأجيلا لمدّة شهرين يمكن تمديدهما اعتمادا على مدة الاضراب، ذلك أن كتابة الحلقات توقفت تماما.

خمس وثلاثون دولة وقف كُتّابها وقفة دعم لنظرائهم في إضراب نقابة الكتاب الأمريكية. نقابات، ومنظمات مجتمعة مثّلت حوالي 67000 كاتب في جميع أنحاء العالم حسّست شركات الإنتاج أنها ليست الأقوى إذا ما استمرّت في رفضها إنصاف كتّابها.

أمّا على مواقع التواصل الاجتماعي فإن أغلب الناشطين ونجوم السينما والإعلام والمؤثرين ساندوا الاضراب. وقد عبّر بعضهم عن سخط كبير ضد “حيتان الإنتاج العملاقة” التي رغم تكدّس ثرواتها بأرقام خرافية إلاّ أنها تعطي كتّابها الفتات.

بعض هذه الشركات فكّرت في حلول لكسر سلسلة المُضربين، فاقترحت أن تنقل بعض كتّابها إلى بلدان أخرى، مع توفير ظروف أفضل للكتابة لإنهاء أعمالها العالقة، لكنها جوبهت بالرّفض، كون هذا المقترح لا يخرج عن إطار رشوة مؤقتة.

السؤال المهم هنا، هل يمكن لهذه الشركات الجبارة أن تعتمد أو تطوّر من الذكاء الاصطناعي بحيث يمكنها الاستغناء تماما عن الطاقات البشرية؟

لقد حقق الذكاء الاصطناعي تطورات كبيرة في معالجة اللغة وتوليدها، وهو قادر على إنشاء نص متماسك، لكن حسب الخبراء والعارفين في هذا الأمر فإن استبدال الكتّاب البشريين بالكامل يعدُّ موضوعاً معقداً جداً. إذ يمكنه تقديم المسودّات، والعديد من المقترحات حسب نوعية المحتوى، لكن هناك جوانب إبداعية تعتمد كلياً على التجارب البشرية المحضة، مثل نقل المشاعر ووصف ما تلمسه الحواس الخمس بشكل مباشر أو غير مباشر. مبدئياً هذه هي العقبة التي تشكِّل التحدي الحقيقي للذكاء الاصطناعي الذي يكرر نفسه بشكل غير مقنع لأنّه يعتمد على البرمجة، فأي نصوص سينتجها الذكاء الاصطناعي في هذه الفترة الحرجة التي تعلن فيها العقول المبدعة التمرّد، مطالبة بحقوقها؟

باختصار، بينما يمكن للذكاء الاصطناعي تعزيز ودعم عملية الكتابة فإنّ الاستبدال الكامل للكُتّاب البشريين في جميع جوانب الكتابة الإبداعية يعدُّ حاليا هدفاً صعباً. ولعلّي وأنا أتصفّح أخبار الإضراب – الذي فاجأني بسبب انشغالاتي – فكّرت في أن الذكاء الاصطناعي كم سيشكّل نهجاً واعداً للكتّاب البشريين، حيث يمكن لأدواته وتقنياته أن تزيد من الإبداع والإنتاجية البشرية بدلاً من السّعي لاستبدال العنصر البشري بالكامل والاستغناء عنه لتوفير بعض “الفتات” الذي ذكرته أعلاه.

لقد تغيّر العالم، وتطوّر بشكل مرعب في ظرف العشر سنوات الأخيرة، أقلُّه إنه أصبح مكشوفاً للعلن، وصادماً بحكم أفكار مسبقة كنا مقتنعين بها لأنّها وصلتنا مغلوطة.  مثلا لنكن صرحاء مع أنفسنا وغيرنا، لطالما عاش الكتّاب وراء ستار المعاملة المُرَوّعة التي تحمّلوها، وعاشوا حياة فيها من البؤس والفقر أكثر من لحظات السعادة والطمأنينة والشعور بالأمان في مجتمعاتنا العربية، وكنّا نعتقد طيلة الوقت أن الكتّاب في الغرب خاصة من هم في امبراطورية هوليود يعيشون حياة شبيهة بحياة النجوم، وإن لم تسلّط عليهم نفس الأضواء، لكن اتضح أن الحال واحد وإن اختلفت درجاته.

كيف سيكون مستقبل الكُتّاب وفق هذه المعطيات كلها؟ وهل يمكن أن نصاب بالعدوى ويتغير واقع الكاتب العربي؟ يقول أحد الخبراء أن رواية القصص مهنة لا تنتهي، وإن كانت أدوات إنشاء المحتوى الآلي وخوارزميات معالجة اللغة بمقدورها إنشاء مقالات إخبارية أساسية وتقارير رياضية وملخصات مالية فإنها لن تمتلك الفكر النقدي البشري، بالعكس فالكتّاب في كل العالم يكتسبون يوميا مهارات جديدة للمشاركة بفاعلية مع الجماهير على المساحات الرّقمية. ولأن هذه الجماهير تتطور هي الأخرى وتكتسب عادات استهلاك جديدة بسرعة، فإن الدّماغ البشري المبدع أسرع في فهمها أكثر من الذكاء الاصطناعي الذي يحتاج لبرمجة دائمة. كما أصبح الفنانون البصريون والمصممون وحتى العلماء بحاجة لمحتوى مقنع وفعّال وهذا من اختصاص الكُتّاب بدون منازع.

باختصار قد يخضع مشهد الكتابة لتغييرات كبيرة، لكنّه سيحتاج دوما إلى لمسة بشرية، وستكون المرونة والقدرة على التكيُّف واحتضان التقنيات الجديدة أمراً بالغ الأهمية للكُتّاب لكي يزدهروا.

غير ذلك، وعودة للإضراب، العديد من نقابات الكتّاب الدّوليّين أصدرت إرشادات لأعضائها حول الابتعاد عن الوظائف التي تذهب لمنتجين أمريكان عبر رسالة مفادها: “إذا طرق منتج أمريكي بابك وقال: نحن بحاجة إلى كاتب أوروبي، وكان العرض مغريا للغاية، فإنّنا نوصي برفضه”.

لقد أدرك العالم أخيرا أن الكُتّاب هم القاعدة الأساسية لكل أعمال الترفيه، والعنصر الأساسي في كل عمل درامي، وأهميتهم تمتد لتطال اختصاصات أخرى يضيق المقام لذكرها، منها وبدون مبالغة إسقاط رؤساء وإيصال آخرين لسدّة الحكم، وهذا موضوع آخر أتركه للعارفين بخبايا السياسة!