لم أجد صعوبة تذكر خلال كتابتي لهذا المقال عن صديقي ورفيقي المناضل الرمز أحمد الشملان سوى اعتصار الألم ونشوة الاعتزاز من أحداث ذكريات العمل معه جنبا إلى جنب أم من على بعد. ولن أفعل الآن سوى استعادة بعض مما كتبته أو قلته عن الشملان سابقاً.
قلت فيه عام 2009 في مقال “شملنا والشملان” أنه إذا كان أزكى الورود رائحة في منطقتنا هو الورد الطائفي فإن أزكى العطر في مجتمعنا يفوحه اللاطائفيون، الذين يَسمُون بالطوائف فوق الطائفية، منحازين لمصالح الكادحين من الطائفتين. والشملان خير مثال .. وأن يجمع مناضل بين الإيمان العميق بالنظرية الثورية العلمية ممتشقا سلاح الكلمة ليهندسها مقروءة شعرا أو عمودا صحافيا، مسموعة غناء أو نشيدا أو خطابا جماهيريا ملهما، أو دفوعات عن المظلومين في قاعات المحاكم، فهنا تضيق الدائرة وتضيق.. ولا متسع إلا لمثل البطل الأسطوري أحمد الشملان.
حدثان هامان في عام 2009 أفاضا بما يزخر به تاريخ المناضل أحمد الشملان: كتاب رفيقة دربه النضالي وزوجته الأستاذة فوزية مطر “أحمد الشملان. سيرة مناضل وتاريخ وطن” و«أيام أحمد الشملان»، التي أقامها المنبر التقدمي ما بين 14 و25 نوفمبر 2009، احتفاءً بهذا المناضل الكبير. ومن كل ما عرض هنا وهناك وسُلِّط عليه من أضواء إعلامية كبيرة يُستدل أن ليست الأقدار من صنع من الشملان بطلا، بل أنه، باختياره لمواقفه المسبقة الإصرار والمنحازة بقوة لقضية الشعب ووحدة قواه الوطنية وبوعي عميق لعواقب مواقفه عليه قدم نفسه بطلا أسطوريا، ما جعل من أبي خالد خالدا في ذاكرة شعبه أبدا.
عرفت وسمعت عن كبيرنا الكثير قبل أن أخالطه. ويوم كان علي بحكم مهماتي في منظمتنا الحزبية في موسكو أن أقدم طلب التحاقه بجامعة الصداقة بين الشعوب باسم باتريس لومومبا بعد خروجه من السجن ليأتي إلينا للدراسة وكاستراحة محارب، اصطدمت بممانعة مجلس قبول الطلبة بالجامعة بالنسبة لطلب الشملان نظرا لكبر سنه (32 سنة)، ما قد يعيق دراسته الجامعية. أعدتُّ قراءة سيرته المرفقة وترسخت قناعتي أكثر بقدرة الشملان على تحدي أية عوائق لتعويض ما فاته من فرص التعليم. دافعت بقوة ووافقوا على مضض، ثم رأوا بأم أعينهم كيف حرص الشملان على التحصيل العلمي، وكيف ساعد الآخرين في الدراسة، وكيف نشط في مهامه المتعددة، وأخيرا كيف دافع عن رسالة الماجستير ونال شهادته في القانون بتفوق. وفي الجامعة، كما في الوطن شكل الشملان دائما النموذج الفريد الذي أذهل الجميع.
عرفت الحياة الحزبية والسياسية والاجتماعية في الاتحاد السوفييتي الشملان مساهما نشطا في كل مجالاتها. عمل في المجال الطلابي بنشاط وساهم بحضور فاعل في المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني لطلبة البحرين في بغداد عام 1976. اجتماعيا كان أحمد نجم التجمعات والجلسات العائلية الخاصة لما له من جاذبية وتأثير في أجوائها حديثا وشعرا وغناء. قاد نشاطَ تثقيفٍ وإعدادٍ أيديولوجي في منظمتنا الحزبية. كان أبو خالد يهوى المطارحات الفكرية الجادة والمناقشات حول اليسار الجديد والطفولة اليسارية والنزعات المغامرة والسبيل إلى التعامل معها. كما يناقش بالتفاصيل مسائل الاختلافات في داخل الحركة الشيوعية والعمالية العربية والعالمية، مبديا رأيه الوازن في ذلك. ولما صعد الشملان إلى اللجنة القيادية وقاد خلايا حزبية وتربت على يديه كوادر حزبية هامة، وتحمل مسؤولية التواصل مع منظمات الأحزاب الشيوعية والعمالية والتقدمية الأخرى، وكذلك الاتصال بالمنظمات السوفييتية للسلم والتضامن والشبيبة والنقابات ساعياً وراء زيادة المنح الدراسية المقدمة لنا في كل عام ومتابعاً لأداء طلبتنا في موسكو ومدن الاتحاد السوفييتي الأخرى وحل مشاكلهم أولا بأول. كما ساهم في خوض كثير من المباحثات وألقى الخطابات المعتبرة في مختلف المحافل نصرةً لقضية شعبنا ووطننا، وانتُدِب ممثلا لـ”جتوب” في مؤتمرات دولية هامة كمؤتمر السلم العالمي الشهير في هلسنكي. كنت أنا مسؤول قيادة المنظمة الحزبية والشملان عضوها، لكن كنت دائما أشعر بحرج الموقف أمام هيبة الشملان وكبر شأنه. ولما أدرك حرجي هذا أخذني ذات مرة على جنب ليقول لي: أنت المسؤول وأنا جندي هنا، ولن تجد مني إلا كل الدعم، فامض بثقة. آه، كم كان وقع ذلك عظيم عليّ، وكم كبر أبو خالد في عيني أكثر وأكثر. وعملنا بالفعل متعاضدَين كرفيقين وأخوبن وصديقين.
في موسكو، كما في كل مكان، كانت الكلمة سلاح الشملان القوي ليس في مجالَي الفكر والسياسة، بل وفي الأدب والفن. هناك ساهم في تأسيس اتحاد الكتاب العرب في موسكو ونشط في أعماله. وهناك أيضا كتب ولحن قصائده الوطنية التي احتوتها مسرحية “شيئ من تاريخ نجمة” حيث أخرجها ودرب الطلاب على أدائها، وعُرضت في احتفالات الذكرى 25 لتأسيس جبهة التحرير الوطني البحرانية عام 1980 كواحدة من أنجح الحفلات التي يقيمها الطلبة الأجانب في الاتحاد السوفييتي. بعد ذلك بخمس سنوات والمناضل الشملان قابع في السجن، وكنت حينها ممثلا للجبهة في عدن، أُعيد عرض المسرحية في احتفالات الذكرى الثلاثين للجبهة بعد أن عمل عليها لحنا وإخراجا وتدريبا فنانان عراقيان كبيران – جعفر حسن وحميد البصري والمخرج المسرحي اليمني نجيب. وساهم في الأداء رفاقنا الطالبات والطلاب الذين تقاطروا من الاتحاد السوفييتي ومصر والهند، إلى جانب فنانين محترفين من العراق واليمن. كان هذا الحفل هو الأكبر على المستوى المركزي. وإن أنسى فلن أنسى مشهد أبي خالد عندما عرضنا أمامه بعد عدة سنوات شريط ذلك الاحتفال، حيث أدمعت عيناه فرحا وفخرا.
تخرج الشملان من الجامعة في يونية 1981، وفي الفترة القصيرة ما بين تخرجه وعودته إلى البحرين ساهم بجد في كتابة مشروع برنامج جبهة التحرير الوطني وفي الإعداد إلى كونجرس الجبهة، والذي عقد بين كوادر جبهوية قيادية من الداخل والخارج بعد أشهر في أبيّن – بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية لمناقشة مشروع البرنامج والوضع السياسي في البلاد وأوضاعنا التنظيمية، إضافة إلى مناقشة الدراسات المقدمة. وكان أبو خالد من بين أنشط المساهمين في الكونجرس. وعاد بعدها إلى الوطن .. لكن للأسف، بدلا من أن يعود إلى بلده كادرا وطنيا علميا في خدمته أُودعَ السجنَ من جديد. إنه يسدد باستمرار، بالأقساط وبالجملة، ثمن نضال مشرف لا هوادة فيه.
في بداية أغسطس 1989 اتصلتُ بالرفيق أحمد الشملان نيابة عن لجنة الخارج مستفسرا عن إمكانية سفره إلى تركيا قريبا فرد إيجابا. وكما تقول رفيقة دربه أ. فوزية مطر كانت تلك أول سفرة للشملان من البحرين إلى الخارج تحمل طابع المهمة الحزبية. وبدأت يوم 11 أغسطس 1989، حيث التقى هناك منفردا بالأمين العام الرفيق الراحل أحمد الذوادي لتدارس الوضع السياسي والاتفاق على الأساليب النضالية الملائمة. بعدها تتالت اللقاءات خلال التسعينات في بلدان أخرى.
بتاريخه النضالي لم يكن الشملان هو نفسه في كل الأوقات، لكن معدنه ظل أصيلا طوال الوقت. شملان عضو حركة القوميين العرب ثم الجبهة الشعبية ثم التحرير، وكأنه خبر كل تجارب اليسار البحريني متطورا إلى النظرية الماركسية اللينينية التي استقر عليها حتى آخر حياته الكفاحية تنظيما وفكرا وممارسة. وبهذا يشكل أحمد الشملان النداء الطبيعي والدائم لهذه القوى لتجسيد التيار الوطني الديمقراطي، الذي كان منزله مكانا متكررا لاجتماعات محاولة تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي، كما كان داعما قويا لتشكيل التيار الوطني الديمقراطي بعد عام 2001.
يشكل الشملان النداء الطبيعي لجميع القوى والشخصيات الوطنية الأخرى لتجسيد الوحدة الوطنية سلاحا أمضى لتحقيق أهدافها المشتركة. أليس هو، أحمد الشملان، من مَثَّلَ اليسار يوما، ماسكا الشيخ عبد اللطيف المحمود بيد والشيخ عبد الأمير الجمري باليد الأخرى تجسيدا للوحدة الوطنية ودعوة لزعماء الطوائف اليوم، كي يرأبوا صدع الوحدة الوطنية ويعيدوها إلى ما كانت عليه في فترات ناصعة من تاريخ شعبنا النضالي؟
سافرتُ عام 1993 إلى الولايات المتحدة الأمريكية كناشط حقوقي والتقيت بمنظمة Lawyer to Lawyer التي يتبنى فيها محام أمريكي قضية محام من بلد آخر. ودار الحديث عن المحاميين أحمد الشملان وأحمد الذكير الذين تم تبني قضيتيهما، حيث كان ملفاهما موجودين أصلا لدى المنظمة.
سرعان ما لمع اسم الرفيق أحمد الشملان كصوت للحركة الوطنية وعنوانها في مختلف المحافل ولدى وكالات الأنباء، خصوصا خلال الإعداد والتعبئة من أجل العريضة الشعبية وتحمل عبء رفع لوائها. وكان بارز المشاركة في المؤتمر القومي في بيروت 1994 ليوصل الصوت إلى هناك كما إلى كل العالم.
وعندما احتدت الأوضاع مع نهاية عام 1994 سجل الشملان حضورا لافتا في عموم الشارع البحريني بحماسه المتقد وواقعيته الرزينة. وأذكر مرة أننا كنا كوفد للحركة الوطنية على وشك الذهاب لمقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية، وقبلها اتصلت بالرفيقين أحمد الشملان ومحسن مرهون لأقف منهما على آخر التطورات. كانت موضوعية إعلامنا وتحركاتنا في الخارج تكمن في التغذية الصادقة والمستمرة من رفاقنا في الداخل.
كان خبر مرض المناضل الشملان ومنعه من السفر مجلجلا في الخارج. وكان العالم حريصا على أن يعرف ما يحدث معه من تطورات، وفي الواقع كان العمل على قضيته عملا من أجل القضية الوطنية بشكل عام.
أصبح من الصعب أن يُختصر اسم الشملان بجبهة التحرير الوطني البحرانية أو المنبر التقدمي. فهو كبير كِبَرَ الوطن بأكمله. لذلك حقّ لنا القول بأن رفيقنا المناضل أحمد الشملان هو رئيسنا الفخري وفخر الوطن.