مع وجود التعدد الديني والمذهبي والإثني في العديد من الدول العربية، يرى بعضُ السياسيين والمثقفين، من أصحاب الفكر المُتزمّت، أن هنالك سلبيات للتنوع الثقافي-حتمية-تتمثل في تفكيك وحدة المجتمع، وظهور نزعات إثنية قد تؤدي إلى اضطرابات وعدم الاستقرار أو الفوضى الاجتماعية.
هذا الاتجاه المتشدد من السياسيين والمثقفين العرب لا يؤمن بمسألة التعددية الثقافية، بل يجعلها قرينة للانقسام والتفكك والصراع داخل الدولة الواحدة. والبديل الأمثل لها-في نظرهم- هو فرض النموذج الواحد الذي ترتضيه الدولة وأجهزتها بما تملكه من قوة كبيرة.
يرى نادر كاظم في كتابهِ “استعمالات الذاكرة: في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ” أن على الدولة الاعتراف بالتعددية الثقافية كمخرج من الأزمات السياسية الجماعية. وأمام هذا النوع من المجتمعات المبتلاة بنوع مزمن من الانقسام، ثلاث خيارات سياسية، الخيار الأول أن تأخذ الدولة بخصوصية جماعة ما لتجعلها قوانين عامة في الدولة. وهناك الخيار الثاني وهو أن تعترف الدولة بالتنوع الثقافي داخلها، وتأخذ بجميع الخصوصيات الدينية أو الإثنية. وهناك الخيار الثالث وهو أن تكون الدولة حيادية تجاه التنوع فلا تأخذ بأية خصوصيات دينية أو إثنية.
الأمر الملاحظ أن أغلب الدول العربية تأخذ بالخيار الأول، المتمثل في فرض الدولة خصوصية جماعة ما لتجعلها قوانين عامة في الدولة. هذا الفرض، أو للدقة الاختزال للتنوع، هو المصدر الأساسي لتفجر الأزمات السياسية والاجتماعية داخل الدولة التي يوجد بها جماعات متباينة دينيًا وإثنيًا.
في أوروبا تأخذ أغلب دولها بالخيار الثاني، المتمثل في اعتراف الدولة بالتنوع الثقافي. بحيث يحق لكل جماعة ما أن تُجاهر بمعتقداتها وتمارس طقوسها وعاداتها وتقاليدها. وأن يتساوى الأفراد/المواطنين أمام القوانين والتشريعات للدولة.
لكن ما حدث من تفجيرات في 11 سبتمبر 2001 لبرجي مركز التجارة العالمي ومبنى البنتاغون في نيويورك، وما تلاها من تفجيرات لندن في 7 يوليو 2005، أُثار جدلًا واسعًا في أوروبا آنذاك حول فكرة “التعددية الثقافية” هل هي السبب في إفساح المجال للمتطرفين من الجماعات الإسلامية في أعمالهم الإرهابية، نتيجة للحرية الواسعة التي كانوا يحصلون عليها؟ وأيهما أفضل، النموذج البريطاني الذي يسمح بالحريات الواسعة للجماعات الدينية والإثنية المختلفة في بريطانيا، أم النموذج الفرنسي الذي يتبنى العلمانية الراديكالية، ويمنع إبراز الرموز الدينية في مؤسسات الدولة، ويعمل على تطبيق السياسات الإدماجية الصارمة مع المهاجرين؟
أما الخيار الثالث وهو أن تكون الدولة حيادية تجاه التنوع فلا تأخذ بأية خصوصيات دينية أو إثنية، تأخذ به الولايات المتحدة الأمريكية، إذ لا تتبنى دينًا أو لغةً رسمية للدولة. فالحرية الدينية على سبيل المثال، مضمونة لا بفضل الاعتراف الرسمي، بل بفضل “الحرية السلبية” كما يطرحها أشعيا برلين، وهي تقوم على فكرة أن يعيش المرء كما يريد من دون تدخل قسري خارجي من الآخرين أو من الدولة.
في العودة إلى الدول العربية، فإن الغالبية من أنظمتها لم تنجح بعد في تحقيق الخيارين الثاني والثالث، أي التطبيق الحقيقي للتعددية الثقافية في تعاملها مع كافة الجماعات الدينية والإثنية، ولا في الخيار الأكثر تقدمًا، بأن تكون الدولة على الحياد مع الجميع بالرغم من اختلاف ألوانهم وأطيافهم.
وفي الواقع لا يقتصر العائق هنا في الدولة فقط، والتي تتحمل المسؤولية الأكبر، بل الجماعات الدينية والإثنية الكبيرة تعمل على اضطهاد الجماعات الصغيرة، وكثيرًا ما تتكاتف مع أجهزة الدولة في تحقيق ذلك. علينا أن نؤمن جميعًا، أنظمة حاكمة وشعوب عربية، بأن التنوع الديني والثقافي والإثني هو مصدر قوة وحضارة، متى ما عملنا بصورة جيدة وصادقة في تطبيق الأنظمة والتشريعات التي تساهم في بناء تعددية ثقافية خلاقة بين جميع المكونات الشعبية في دولنا العربية.