تشخيص الميديوكر

0
83

“لا تجعلوا من الحمقى مشاهير”.. جملة ترددت كثيراً بعد اجتياح برامج التواصل؛ التي لا تخضع لمعيار محدد يمكن الرجوع إليه في حال مخالفته، ولا حتى لمقص رقيب مثل بقية القنوات المعتاد أن يكون لها مرجع وأساس. أما فوضى الظهور من كل المنابر المتاحة، وبكل الأشكال المباحة أو بغيرها، فالخبر غير الصادم هو أنهم متسيِّدون، ويقودون مجتمعات تمثل فئات تطمح أن تكون امتداداً لهذه الحماقة! طالما أن هناك مردوداً مادياً ومعنوياً لا يحصده الحقيقيون!

تحليل هذه الفئة ومستوياتها المتعددة على أشكال مختلفة، جاء في كتاب “نظام التفاهة” لأستاذ الفلسفة الكندي ألان دونو، الصادر في 2015، والذي أخذ شهرة واسعة في العالم العربي بعد أن قامت الأستاذة بجامعة الكويت مشاعل الهاجري بترجمته إلى اللغة العربية، بلغة جميلة، بسيطة، ومفهومة، وبمزاج مترجم واعٍ لنقل كتب ذات محتوى استثنائي، ويصب في واقع الحياة؛ وكتبت في مقدمته: “كتاب هام ينبغي أن يقرأ بهدوء”، مما زاد في سرعة تداول الكتاب الذي غزا رف الكتب الأكثر مبيعاً، جنباً إلى جنب مع كتب تجانب فكرته، وترسِّخ لمعظم أفكار كتب التنمية البشرية؛ على غرار “كيف تجيد اللغة الفلانية في ثلاث ثوانٍ”!

وبينما يعني الكتاب الخوض في أحوال التافهين الذين يعيشون أزهي عصورهم في تقدير غير مفهوم المصدر، وشرح وافٍ لشكل نظام التفاهة الذي وصلنا إليه، وعن “سيطرة التافهين على جميع مناحي الحياة، ومكافأتهم، وتعزيز مكانتهم، عوضاً عن العمل الجاد والملتزم”؛ يجب أن لا يسوقنا العنوان للانحياز ضد التفاهة – التي سنأتي على ذكرها هنا لاحقاً -. فقد لفت أحد النابهين الانتباه إلى أن المعنى في العنوان باللغة الفرنسية  La médiocratie أو بالإنجليزية  Mediocrity لا يأتي على التفاهة بشكل مباشر، كما أشارت له المترجمة الهاجري في ضبط المصطلحات المحورية في الكتاب، ألطفها جاء بمفردة “تواضع المستوى”، إلا أن نظام التفاهة جاء بمفردة صادمة، وغير مألوفة، ربما زادت في لفت النظر إليه أكثر، وزادت من مبيعاته.

لذا يجب تحديد شكل الميديوكر mediocre الذي يختلف من شخص لآخر معيارياً، لكن المتفق عليه هو كلمة سر واحدة: متوسط الموهبة، ونال حظوظاً مبالغاً فيها، قياساً بالمهارات التي يمتلكها بالفعل. وهذا الوضع، في تكراره، يقارب العبث لشدة تسكين غير القادرين في مفاصل مهمة حقاً، وتحتاج إلى متخصصين ومتمرسين في أبسط الطرق التي تؤدي إلى فكرة الكمال أو الجمال في العمل، والتي لا يطالها أحد، ولكننا – كلنا – في محاولتنا لأن نكون أسوياء، نسعى نحو هذا الهاجس النبيل. فما الذي يجعل هذا “المتوسط” ينال قبل أن يتمنى في بعض الأحيان؟ لا تغادرني صورة أبرز ميديوكر – على الأقل من وجهة نظري – في السينما، عبر الممثل المصري الراحل شكري سرحان، والذي تناولته مسبقاً في توضيح أسباب تكرار حضوره في أهم الأفلام المصرية، رغم تواضع الموهبة والقدرات التمثيلية وحضوره على الشاشة. وبعيداً عن هذا التشخيص له كممثل، أتفاعل بأسى مع موسيقي البلاط “المتقن” الإيطالي أنطونيو سالييري، الذي جسّد في الفيلم الرائع الشهير “أماديوس” شخصية المكتوي بنار الغيرة من غريمه الموهوب بالفطرة، مما أدى إلى التسبب في موت الأخير، في صورة تشخيصية لأكثر المشاعر الإنسانية المختلطة غرابة.

وهذه نماذج تثبت أن متوسطي – أو عديمي – الموهبة، ليسوا كسالى أو متخاذلين، ولا حتى أشراراً – باعتبار ما صوره الفيلم عن سالييري-. فهذا الأخير مثلاً وصل إلى منصب كبير الموسيقيين في البلاط بالنمسا نتيجة ذيوع صيته ونجاحاته الموسيقية المتعددة. وفي غمرة طمأنينته، يظهر موتسارت حين يثبت أن الموهبة هبة ربانية أكثر من كونها تعليماً في تكنيك محدد، حتى في مجال إبداعي مثل الموسيقى. وبرغم الأثر الإنساني التي تتركه هذه التجارب، لكنها تظل مشاهد فردية في حياة أشخاص بعينهم، ومختلفة لو شمل الخراب عدداً أكبر؛ كأن يكون مسؤولاً عن تعليم مراحل أساسية، مثل الوكيل الفاسد “سيد” المتفاني في عمله، ويفعل ما هو منوط به، لكن بدافع المنفعة الآنية بفيلم “الناظر”، الذي ناقش أحوال التعليم بشكل مصغر، يمكن أن يفسِّر لنا فساد هذه المنظومة في بعض الأماكن.

وليس ببعيد عن شخصية الوكيل، التي قام بأدائها الفنان الراحل حسن حسني، فإن كل من تأتي به الصدف وسوء التخطيط، وفكرة تحريك شخصيات بعينها مثل عرائس الماريونت، ليخيّل للعامة أن القرارات تصدر منها! وفيها محركات داخلية، وتراجع الكفاءات، نأياً عن صراعات لا تنتهي. والتعرض – درامياً – للتعليم فكرة عميقة؛ لأنها تصبُّ في تأسيس أي فرد. لكن هذا لا يعني التغاضي عن ميديوكر في مفاصل أساسية في حياتنا، حتى وإن لم نكن نتبعها بشكل مباشر. فحين تسلم إدارة الفن لمصالح محددة، وموظفين ينتهجون البيروقراطية ويمارسونها بصورة عمياء؛ تتعقد أكثر مما هي عليه، حين يكون المسؤول كما يقول المظلوم في فيلم “جاءنا البيان التالي”، بصوته وإيقاعه المميز: “عنده قرايب مهمين”، فلا بد أن تسود العشوائية، وتوظيف شبكة من نفس المادة الخام الموجودة على رأس هذا الكيان، وهكذا يكون السائد غير المثير للانتباه على الإطلاق؛ لأنه – ببساطة – تمّ الاعتياد عليه.

ولا دفاع عنهم في أي مكان! في الوطن العربي ما يكفي من الأسماء التي تدير مهرجانات وجهات إنتاج الفن؛ من مسرح وموسيقى وتشكيل ونحت وغيرها، وكل الفنون الأخرى التي تحتاج إلى مؤهل عقلي حر، قبل أن يكون مؤهلا دراسيا يعلق بفخر وراء مكتب فخم؟! وهذا أيضاً يقود إلى البيع المعلن لرسائل أكاديمية على منصة عامة، وخدمات ما بعد البيع كأي سلعة جيدة الصنع والتسويق، لها تجارها وزبائنها المستمرون؟ بحيث أصبحت الدكتوراة الفخرية التي تمنح من مصادر غير معروفة لأشخاص يصرون على العيش بوجاهة الشهادة تصل للتوقيع على أوراق رسمية! كيف يحصل كل هذا، ولا منتفض واحد يستنكر ما يحصل من عصف مدمر ينخر في أساسات مجتمعنا؟

حتى في الأمور غير الخاضعة لإدارة أو كيان ما، فإن انطلاق أنصاف المواهب، أو أرباعها، يتطلب كلفة نفسية ومادية تبدأ بالاستعداد والسعي، وهذا ما يقوم عليه جزء كبير منهم؛ إيماناً بنفسه، والجزء الآخر تخدمه وتسيّره الظروف بلا شك. وإلا ماذا يعني إطلاق برامج موسمية بميزانيات خيالية، والترويج المقصود والمُلِحّ لأغانٍ هابطة؛ أو تصدير صورة البلطجة بنماذج بارزة، باعتبارها شخصيات مستقاة من الواقع؛ أو إلغاء برامج ثقافية متحققة ومشاهدة ولها جمهورها، وإعادة برمجتها بشكل مشوَّه؛ أو تغيير اسم علم معروف، مثل أحمد زكي، أو منى زكي، ليتحول إلى “ذكي”! ويتم تداوله في كتابات بهذا الحرف الجديد، مع الفارق بين المعنيين، حتى يصل إلى التعميم؟! ناهيك عن مساهمة البرامج الحوارية المشاهدة في تكريس صورة متصدري التفاهة على الوسائل السهلة، عبر استضافتهم لمشاهدة مشهور في اليوتيوب يؤدي رقصة بلا معنى، فقط لأن الملايين تتابعه! من هم هؤلاء الملايين، طالما أننا نكرر جملتنا الاعتباطية “لا تجعلوا الحمقى مشاهير”؟

وإذا تم التسليم بأنها مصالح فردية، وأن ثمة مبالغات في التهويل، أو تصور الأمر أن المنصات الجديدة قد سمحت بتواجد هذا الأذى الذي كان مخبوءاً من قبل، وهو أمر لا يخلو من الصحة، لكن أليس من حق من يشاهد أن يسأل عن مدى الاستفادة المتحققة من وجود عائلة الميديوكر الممتدة بلا حد؟ وكيف سيؤول الوضع لو استلم أي منهم مكاناً فاعلاً -وهم كذلك-؟ أو كيف سننجو ونهرب، وكذلك الأجيال التي تأتي من بعدنا، من قبضة حصارهم المتزايد؟ هل لاحظنا تعزيزهم لبعض البعض، من المحيط إلى الخليج، وأيضاً عبر وسائل تواصل اجتماعي مختلفة، وإحلال السطحيين وأنصاف المتعلمين -حتى من حملة الشهادات- في مراكز قرار مهمة؟ لا يمكن لهذا النهج إلا أن يكون مدروساً ومخططاً له لإظهارنا بأننا في هذا المستوى، وأقل؟

أضف إلى هذا كل الشخصيات التي نعرفها عبر شاشات هواتفنا أو تلفزيوناتنا، أو حين نراهم وجهاً لوجه في محيط العمل، والعائلة، وأصدقاء الأصدقاء، الذين ينتظرون جني ثمار معرفتهم بالميديوكر! ومن الصعب التعداد، أو التصنيف؛ لأن الأشكال متغيرة، لكن الثابت وجودهم الحتمي في كل مركز قرار أو مسئولية. ومع عدم استبعاد فكرة المؤامرة على الإطلاق، فإن هؤلاء لا يأتوا صدفة، وكل شيء لسبب حقاً. الأحداث في وقتها قد لا تُقرأ بشكل جيد؛ إذ لا يكون من المألوف تنازع قوتين كبيرتين، ولأجل هذا تؤجج جيوش إلكترونية من أجل النيل من الخصم، باعتبار أن هذا رأي العامة، الذي يتحول تلقائياً لرأي عام!

وحتى لا تتداخل تصنيفات التافهين مع الميديوكر في خانة وحدة، فإننا نحتاج إلى التفاهة في بعض أجزاء حياتنا؛ من باب الترفيه، وهي ممتعة لكسر حدة الجدية، مثل النهج الذي اتبعه الفنان الراحل سمير غانم – على سبيل المثال – في مجمل أعماله الدرامية. قد لا يستسيغ البعض طريقته غير الجادة في الكلام، مهما كان الموقف غير ذلك، إلا أن له جمهوراً عريضاً يقدِّره ويعشق طريقة أدائه. لكن ما يجيد فعله هذا الفنان، هو وغيره داخل الشاشة، يختلف عمّا لا يمكن التحكم فيه خارجها، من حيث سهولة الألقاب والصفات التي تمنح لقب “شاعر” لكاتب جمل “متناثرة”، وغامضة المعنى، تجعل كثرتها دواوين ورقية وإلكترونية في ما يشبه الوباء، وقد ترجع المسألة لقصور في فهمك أنت! لكن لن تستطيع تمرير استفهام مسؤول في موقع هام للنشر الورقي، يسأل بصوت جهوري: “أي الحرفين له (عصا) في أعلاه: الضاد أم الظاء؟!”.

وأرجوكم.. لا تجعلوهم مشاهير، ولا حتى معروفين.