مأسسة العنف الأسري

0
48

تكمن أهمية المواضيع الإجتماعية، عندما تتوجه حقاً نحو مناقشة القضايا المهمة والإنسانية في المجتمع. ومما لا شك فيه، أن موضوع الأسرة، هو أحد أكثر المواضيع أهمية، متسائلين عن دورها ومكانتها في حياتنا. وأولوية هذا الموضوع ليس مرتبطة بالأسرة فقط، بل متصلةٌ بالحياة العامة أيضاً.

استوقفني كثيراً عنوان الندوة التي قدّمتها الدكتورة هدى المحمود في نهاية شهر فبراير الماضي، والتي جاءت تحت عنوان: مأسسة العنف الأسري. ومَنْ حضر الندوة أو شاهدها، يكون قد تعرف على أحد أبرز الأزمات الاجتماعية التي تواجهها الأسرة في مجتمعاتنا، والذي يتمثل في “العنف الأسري».

لقد دفعني عنوان هذه الندوة إلى التساؤل: كيف أن أمراً سيئاً مثل العنف الأسري، يكون مؤسساً في حياتنا..؟! ومعنى كلمة المأسسة هنا، هو التكريس والاستمرارية؛ تماماً كما هي المؤسسات المستمرة في عملها ونشاطها.

إن مكانة الأسرة في الحياة، لا تقلُّ أبداً عن مكانة السياسة والاقتصاد. وهذه الأخيرة، لا يمكن لها أن تكون بتلك الفاعلية والنجاح، إذا لم ترتبط بمصالح الأسرة، من خلال الإدارة الصحيحة والعدالة الاجتماعية، وأزمة العنف الأسري المتزايدة، توضح هذا النسيان الكبير لمكانة الأسرة، وما يعكسه دورها في التعريف بمستويات الوعي والتقدّم في المجتمع.

الأزمات الاجتماعية للبشر في الحياة العصرية، من الطبيعي أن تحمل جذوراً من الماضي. ولأن تاريخ الإنسان حافلٌ دائماً يالتدريج والتطور، وقد أشارت الدكتورة هدى عن ذالك، عندما قالت: «العنف في حد ذاته هو غريزة، تحفظ حياة الإنسان وتحفظ وجوده، ولكن أسيئ استغلاله». وهذه الكلمة المهمة، توضح الجانب “السيكلوجي” للسلوك البشري، والذي يتمثل في الغرائز الطبيعية للحياة، التي يستخدمها الإنسان للبقاء؛ ولكن تفعيلها، طبعاً، يتزامن مع المقاييس الأخلاقية، تلك المرتبطة بالضمير والعدالة، من أجل عدم إنحدار الإنسان نحو الظلم والهيمنة.

تزايد العنف الأسري – بالتأكيد – لا يأتي من الفراغ، بل من الأسباب المختلفة، الموضوعية والذاتية. وقبل الحديث عن التربية في هذه الأزمة، من الضروري أن ننظر إلى المنظومة العامة في المجتمع، والتي تعكسها القوانين والتشريعات، وأيضاً، المفاهيم الاجتماعية السائدة، تلك التي تختصرها «الأعراف». وأن مأسسة العنف الأسري، في حقيقته، هو هذا التحالف القائم بينهما؛ ذالك الذي ينظر إلى هذه الأزمة، بالتهميش وعدم الأولوية – بحسب تقاليد الإهمال وعدم التقدير – لمكانة المرأة والأسرة.

الوعي بمسؤوليات الأسرة عند الرجل والمرأة، من الطبيعي أن يكون حاضراً عند تحليل هذه الأزمة. هذا الوعي، الذي لا ينسى أبداً مكانة الذات ونضج الشخصية، التي تساهم حقاً في بناء الأسرة وحمايتها. وإن تكامل الشخصية في حياة الزوج والزوجة، ينتقل إلى الأبناء من خلال البيئة؛ والعكس في هذه الحالة، يكون مؤثراً جداً، وهو ما يجب إدراكه، عند الإقدام على الزواج وتأسيس الأسرة.


إن حسابات المصلحة والقوة، في منظومة بناء الأسرة وتكوين المجتمعات، لا يمكن لها أن تبني مجتمعاً سليماً وناهضاً؛ بل تعمل على تأسيس أزماتٍ جديدة، بسبب تجاهل هذه الأزمة الواضحة. وإن غياب تحمُّل المسؤولية في بناء هذه الثقافة الجديدة، من أجل مناهضة هذا العنف وأسبابه، يكون اسهاماً واضحاً في إنهاك المجتمع وتضييع أفراده.

الأعراف والتقاليد السيئة، هي البيئة الحقيقية للعنف الأسري، وأن مكافحتها يتطلب تفعيل دور الثقافة الحديثة، والمتمثلة بقيم التنوير والتقدّم، التي تنظر إلى الرجل والمرأة نظرة التكامل، من خلال مبدأ النصف الآخر. وهذا المبدأ، هو قاعدة بشرية، تراجع كثيراً في تاريخ مجتمعاتنا، بسبب عادات التهميش وعدم التقدير لمكانة المرأة، التي لا زالت موجودة في الثقافة والمعتقدات، خليجياً وعربياً. ولكننا اليوم – ومن خلال ثقافة النور العصرية – يكون وعي الرجل والمرأة بمسؤولياتهما، أكثر إنصافاً وعدلاً من العقود الماضية. وإن أفضلية الرجل التقليدية، والتي تدعمها المفاهيم الذكورية في المجتمع؛ هي ظلمٌ واضحٌ بحق النصف الثاني من مجتمعنا وانسانيتنا، خصوصاً، في ظل الإنجاز والمكانة، التي وصلت لها المرأة في حياتنا.

الوعي المجتمعي للبشر، هي من الكلمات الواضحة والمهمة التي أشارت لها الدكتورة هدى في هذه الأمسية. وهي، بهذه الكلمة، تحاول فتح أبواب الضوء على مسؤوليات الفرد والمجتمع، في مكافحة جذور هذه الأزمة. ولأن هذا الوعي – من خلال تحفيزه وحضوره – يُعالج ما هو أبعد من العنف الأسري، عندما يدرك تلك الاختلالات البنيوية والوظيفية في المجتمع؛ والتي أراها تعكس مراحل التحديث والتطور الاجتماعي، وأيضاً مسارات التراجع والتقدّم، على مستوى الأدوار الاجتماعية ومكانة الفرد، وصولاً لأبعاد العدالة ومعاني المصلحة العامة.

بين مكانة الفرد ومكانة الأسرة، هنالك مسافةٌ مشتركةٌ بينهما، من الضروري أن تكون واضحة، من أجل التكامل فيما بينها. ولأننا هنا، نطمح بتأسيس ثقافة الذات والشخصية، بدلاً من الإلغاء والتبعية. وإن البيئة الأسرية التي ينشأ فيها الفرد بثقافة الاستقلال والشخصية، تكون أقرب إلى قيم الهناء الأسري؛ وهي، عبر ذالك، تعزز حقاً مكانة الأسرة ونجاحها.

عندما مناقشة مسألة العنف الأسري، من الطبيعي أن لا ننسى دور التربية ومكانتها في تفكيك هذه الأزمة. ومكانة الحداثة الراهنة، التي يعيشها المجتمع اليوم، يجب أن يكون لها هذا الدور الايجابي، في الإرتقاء بالأسرة وأفرادها؛ خصوصاً في الإحترام والمكانة إلى النصف الآخر، أي إلى المرأة. ودور الأم والأب هنا، يكون عظيماً في هذا الشأن، لأن التكوين يكون بيدهما فقط؛ من خلال تكريس ثقافة المسؤولية والإحترام عند الأبناء من الجنسين، وعبر تفعيل القيم التعاونية، البعيدة عن المفاهيم الذكورية، التي تقلل من مكانة المرأة واستقلاليتها.

الشخصيات النسائية في مجتمعاتنا، تعمل دائماً على تأكيد حقوق المرأة ومكانتها في الحياة الإنسانية، من خلال التعريف بالإمتيازات الطبيعية؛ والتي يتمُّ نسيانها من قبل الرجل والمرأة، بحسب الثقافة التقليدية السائدة. والثقافة العصرية، هي ثقافة الوضوح التي لا تتجاهل المتطلبات الرئيسية أو الثانوية في الحياة الحديثة؛ ومنها مسألة «الحقوق الجنسية والإنجابية» التي هي من صميم الحياة الزوجية بين الرجل والمرأة. وإن التنوير بها – عند الرجل خصوصاً – يساهم كثيراً في دعم الإستقرار الأسري المنشود، من خلال تقدير حقوق المرأة وقرارها في الحياة الزوجية؛ خصوصاً، في مسألة «قرار الإنجاب ومسؤوليات التربية» وما يرافقها من التبعات الصحية، الجسدية والنفسية على المرأة. وهذا الكلام، هو من بديهيات الثقافة الراقية والحديثة، التي تعمل على تكوين الحياة الزوجية والأسرية، بصورتها الصحيحة والهانئة.

في الختام، من الجدير أن نتوجه بالشكر الجزيل إلى الدكتورة هدى المحمود، على جهودها الكبيرة، على المستوى المهني والثقافي، في مناقشة هذه التحديات الإجتماعية المهمة، التي ترتقي بمكانة المرأة والأسرة في مجتمعنا البحريني. والشكر موصولٌ أيضاً، إلى قطاع المرأة في المنبر التقدمي، على تنظيمهم لهذه الفعالية الهادفة. ولا يمكننا أن نختتم موضوع “العنف الأسري” سوى بكلمة ورسالة، طرحتها صاحبة الأمسية، وهي تتساءل عن مشاريع النهوض والتقدّم في المجتمع، والتي نقرأها من خلال الكلمات التالية: “العنف، كان ولا زال، يشكل إخفاقاً وتناقضاً للمشروع التربوي للمجتمع؛ الذي يفترض منه، أن يحفظ أفراده ويأهلهم، ليكونوا مواطنين أسوياء، من أجل تأدية أدوارهم المأمولة منهم في المجتمع”.