“خاصرة الريح”.. مجموعةٌ تصوِّر مشاعر الحُزن في عصر الجائحة

0
20

من عُمق هواجس أيَّام الجائحة التي استولت على مشاعر العالم، من ساعات الترقُّب والحيرة ووحشة الروح، من تلك الأوقات التي تختلط فيها الأحلام بالذكريات؛ جاءت مجموعة “خاصر الريح” للشاعر البحريني “علي الستراوي” بسبعة عشر نصٍ شعريٍ تعكس تأملات الشاعر، وتصوِّر جانبًا من أفكاره ومشاعره التي تُحاول النجاة من أحزانها أمام طوفان أخبار الموت الهاطِل بغزارة لتأتي في هذه العناوين: خاصرة الريح/ صحوة/ عام 2020/ ما بيني وبينك/ ليعبروا مع العابرين/ حكاية الرعد في المطر/ سيدة في المقام/ منازل ليس لها ما لنا/ في بيت عتيق عرفتك/ الماء في بطن عافيتي/ سراج المدينة ضنين/ على دفتر قلبي حبَّرتُ وجعي/ لا وقتَ يُشغلني عنك/ لستُ وحيدًا/ رسائلهم لا تُضيع الطريق/ مساكن الغجر/ انتشى حينما مسَّه الملح.

مرحلة تاريخيَّة مؤثرة:

لطالما كان الأدب وعاءً يحتوي مشاعر المُبدعين حول العالم خلال أوقات النكبات والأزمات ولا سيما انتشار الأوبئة، فالشاعر الإنجليزي “أوديارد كبلنج” خلَّد تلك المشاعر في قصيدته “معسكر الكوليرا”، ونصوص الأديب الأمريكي “إدغار آلن بو” التي كانت انعكاسًا لمعاناته الشخصية أمام المرض ومُعاناته النفسية جرَّاء اختطاف الموت أحِبَّائه – لا سيما زوجته- بسبب داءٍ فتَّاك؛ مازالت نصوصًا خالدة على أشهر صفحات تاريخ الأدب العالمي، ما يجعل من “خاصرة الريح” إصدارًا يمتاز بالتأريخ المشاعري لمرحلةٍ مؤثرة في تاريخ الإنسان المُعاصر، فآثار جائحة فيروس “كورونا” حول العالم تسببت بخرابٍ نفسي ومُجتمعي ومادي يصعب إصلاحه في حياة كثيرين على مدى أعوام قادمة حتى بعد انحسار الجائحة، وبعض مُضاعفات تلك المرحلة التي قد تتجلى في المُستقبل تحتاج عودة إلى هذا النوع من التسجيل لمشاعر الإنسان ومخاوفه خلال تلك الفترة لفهم أسباب ما حدث.

تمد المجموعة يدها نحو مشاعر القارئ الذي يتجول بقلبه بين نصوصها المُترعة بأشجانٍ شفَّافة، فيرى الجنائز التي تتقدم نحو حُريَّة الموت بين سطور نص “خاصرة الريح”، ثم السبيلُ لجعل “الطفيليات تستحي من يوم ميلادها” في “صحوة”، أما نص “عام 2020” فيوثق له جانبًا من “انحدار العالم في لُعبة المُضاربة”، لتدهشه لحظات “الانفصال عن العقل في زمن مثقل بالخوف” من خلال نص “ما بيني وبينك”، بعدها تذهله حكاية الأحبة الذين لا يذهبون إلى النوم قبل أن يسردوا للحياة حكاية الأمل خلال سباق العالم مع الموت في “ليعبروا مع العابرين”، وفي “حكاية الرعد في المطر” يغوص في مشاعر أولئك الذين “زمنهم لا يُشبه رغيف الجائعين عند اشتداد الجائحة”، أما نص “سيدة المقام” فيجتذبه فيه الكلام عن “الشمعة التي أضاعت طريق ظُلمتها”، ويستشف تلك الحيرة حين نقرأ عن “ضياع خواتيم السنين في التواريخ المُريبة” خلال كلمات “منازل ليس لها ما لنا!”، أما نص “في بيتٍ عتيقٍ عرفتك” يُبصر القارئ بقلبه مُعاناة انسان “مرَّت سنوات غربته وهو على عادته يقسو على مشاعره”، ثم ينطلق نحو “اشتعال أصابع النهار بحلم دافئ” بين سطور “الماء في بطن عافيتي”، ويلتقي “بالغيمة التي أحزنها ابتعادها عن البرق” في “سراج المدينة ضنين”، وبـ “الجسد العربي المُثقل بالقروح والأمل بسلامٍ يغسل الأرض من لغو الموت” في نص “على دفتر قلبي حبَّرتُ وجعي”، ويواجه “النوايا المطبوعة بالوفاء” في “لا وقتَ يُشغلني عنك”، بينما يُسمعه نص “لستُ وحيدًا” أو جاع “ظهر ليسَ له من يُسند سندان عافيته كي لا ينحني”، ثم يأتيه نص “رسائلهم لا تضيع الطريق” برسالة من “وطن كلما أبحر فيه الصادقون تهاوت على جفنه طيور الألق”، يليه نص “مساكن الغجر” الذي تُسمع بين كلماته “صرخة أنجبَتها المسافات في جبين الشمس”، ليصل أخيرًا إلى ” انتشى حينما مسَّه الملح” الذي يُخبره كيف كتب الشاعر “فوق صفحة قلبه حكايات من مرّوا ومن رحلوا دون زفاف نجمة في السماء، ودون رفيقٍ يسحب من ظلام الكون حبل عافيته”، وخلال ترحاله بين النصوص يلحظ القارئ تكرار كلماتٍ تؤكد هشاشة الكائن البشري وضعفه أمام حجم فجيعتا المرض والموت مثل: الخوف، الحزن، الوجع، القلق، الوحشة، الانكسار، الاحتضار، الأنين، البُكاء، الجروح، الفقد، والضياع، كما يُصادف أمثلة على جوائح أُخرى نقشت حضورها على صفحات التاريخ مثل قوله في نص خاصرة الريح: “الجُذام آفةٌ للجسد الضعيف.. صـ10″، أو قوله في نص صحوة: “كواقع أمس المُبتلى بالطاعون.. صـ15”

وللبيئة البحرينية نصيب:

تجلَّى حضور البيئة البحرينية في المجموعة باثنتين من أهم علاماتها: البحر والنخيل، ففي نص “لستُ وحيدًا نلتقي بالبحر ودلالات أخرى تؤكد حضوره وتدل عليه كالسفن، الشراع، النوارس، الشطآن، القواقِع، إذ يقول:

“ذهبنا حيث الشراع

وحيث سُفُن الأحبة

يجوبون البحر بأحلامٍ مخنوقة

لكنهم يُبحرون

وعند التقاء النوارس بشطآنها

يغسلون أجسادهم بالرقص!

ويمضغون قواقع مُثقلة بالشوك… صـ 84″.

لا ينفك حضور البحر عن التكرار، ففي نص “منازل ليس لها ما لنا” يقول: “كأنها السفين الذي لم يُغادر البحر.. ص49″، ثم يعود في موضع آخر على ذات الصفحة قائلاً: “وانشغل الليل بموت البحر..”. وفي نص “مساكن الغجر”: “أُغادر بالموت فضاء بحارها.. صـ91″، أما نص “انتشى حينما مسه الملح فيقول: “وأُبحرُ في سُفن الحكايات قشَّة يُلاعبها الموج.. صـ100”.

أمَّا النخلة فيُصافحنا وجودها مرتين؛ الأولى في نص “سيدة المقام” إذ يقول: “وما للنخل من عناقيد البسر.. صـ45″، والثانية في نص “منازل ليس لها ما لنا” حين نلتقي بـ “وبُكاء النخيل ليلة العرس.. صـ49”