حول المشترك بين نابكوف وواسيني الأعرج

0
50

أصابع لوليتا

يبهرك ويأخذك لعوالم أخرى يصعب عليك الفكاك منها. أسلوبه  رشيق كالفراشة، ناعم كأصابع (لوليتا) عندما تعزف لحنها الجميل، فهل أجمل من تلك الأصابع؟، يضعك في عوالمه المفتوحة على كل شيْ: الموسيقي، الرسم، المسرح، السينما، عالم الموضة، التاريخ، كبار الأدباء والكتّاب، روايات تود أن تقرأها، مجلات تتصفحها من خلال رواية، ورود تستنشق عبيرها، طبيعة خلابة في بلاد تتمنى زيارتها، بحيرة تأمل أن تجلس قبالتها، مقهى تود أن ترتشف قهوة فيه، مسرح تشاهد احداثه، كل ذلك تجده قي روايات المبدع  واسيني الأعرج، الذي أبدع ومازال يبدع، وكلما انتهيت من رواية له تجد الأخرى لاتقل ألقًا وإبداعًا. إنه ساحر يبدع سحره ليحسسنا بقيمة الحياة وأجمل اللحظات التي يجب أن نعيشها حتى لا تتسرب من بين أيدينا وتضيع منا، فالحياة قصيرة ويجب أن نعيشها طولًا وعرضًا بكل دقائقها، بل بكل ثوانيها دون أن نندم على ما فات، فالحياة جميلة وأُعطيت لنا لمرة واحدة، فما علينا إلا أن نعيشها ونستمتع بها إلى آخر جرعة حلوة نتذوقها وننتشي بها، ولا نترك للصدف أن تلعب بنا وتأخذ منا ملذاتها.

مع واسيني الأعرج نغوص في أعماق الجغرافيا والتاريخ، ومعه نشعر دومًا براحة نفسية لسرده المرهف والسلس، فلا تجد كبير عناء لتفهم ما يريد قوله لقرائه، بل يصلهم بحبله السردي ليرسم لهم صورة جميلة من الواقع الملموس لأشخاص واقعيين من لحم ودم لهم أحاسيس ومشاعر. يحبون في أغلب الأحيان، وينسون ويَسمون على الأحقاد، وإنسانيون إلى أبعد الحدود، فالحس الإنساني حاضر دومًا والحب ملازم لإبداعاته.

من يعيش مع رواية (أصابع لوليتا) لا بد وأن يُحبّ تلك الفتاة المفعمة بالجمال وبالطاقة، ويتعاطف أيضا مع معاناتها مع الأب الوحش الذي دمر حياتها باغتصابها، وأبقاها على شفير حفرة من الانتحار، لولا قوة إرادتها ومصادفة اهتمامها بالروايات ولقاءها مع من تعتقد بأنه من بسط لها فراش النجاة، كاتبها المفضل يونس مارينا.

لو التقى أي منا لوليتا ولو مجازًا في أي من عروض الأزياء في تلفزيونات الموضة لوقع في شباكها وعاش حبًا جارفًا غير عادي لما تتدفق  به من حيوية ونشاط، على الرغم مما عانته مع ذلك الأب السادي، وما لاقته من محن رغم حداثة سنها. تبقى صورة لوليتا حاضرة في كل طلة على محطة من محطات الموضة، فلوليتا، ليست فقط موديلاً، وإنما هي ذات قوام ممشوق وصورة من آلهة الجمال والحسن والتصوير الإبداعي، فآلهة الإبداع خلقت شكلاً على مقاسها سمته (لوليتا) واخترقت به كل أفئدة المحبين من مختلف الأذواق، فلوليتا أقرب لكل محبي الجمال وعاشقي الحياة. أفلا تحرك كل تلك الألوان الجميلة وكل ذلك السحر والعطور من مختلف الماركات العالمية فيك حاسة سحر الحياة وملذاتها؟ لوليتا الجميلة دومًا تفاجئك بأناقتها المبهرة، ساحرة في وجودها وغيابها، في سفراتها لعروض الأزياء تشعرك بوجودها وكأنها فراشة تحلق حواليك رغم بعدها عنك. تتمنى أن تتلبس شخصية لوليتا وأن تعيش فرحها وحزنها من الصورة التي رسمها واسيني الأعرج، فالوصف في الرواية يفوق ما لا يقاس بما تجعله التمنيات البصرية ملموساً، فلوليتا أبعد من أن تكون صورة في إطار مرسوم لها سلفًا، بل هي كائن لا يمكن أن تحتويه الكلمات، فكيف ستبدأ الحياة دون طلة لوليتا الحيوية ونشاطها المتدفق دومًا وإبداعاتها الخلاقة أبدًا. تلتمع في عينيها نظرة من نوع خاص، نظرة جريئة ومغرية معاً، لتشدّ إليها الناظر.

أحببتُ رواية (أصابع لوليتا)، كما أحببتُ كل روايات واسيني الأعرج، وبقي أن أعرج على ما تبقى لي من دهشة حلوة لطريقة السرد القصصي الفائق الجمال والروعة والحلاوة، وقدرته اللغوية على الإدهاش لكل ما ابتدعه من سرديات ممتعة، فالروايات العظيمة تجعلنا نسمو بأحاسيسنا ورهافتنا تجاه تعقيدات الحياة والناس، كما تقول آذر نفيسي في روايتها الجميلة أيضاً (أن تقرأ لوليتا في طهران). أحبك لوليتا وأحب خفتك وجمالك وإبداعك وصبرك وتخطيك للصعاب، فالحياة إذا لم نفهمها ستصعب علينا، وبالحب والتسامح والغفران يمكننا العيش بأمان. إنسى مآسيك ومشاكلك، وضع هدفًا لحياتك مثلما فعل يونس مارينا في (أصابع لوليتا) لينظر للحياة من منظار آخر، منظار الأمل والنجاح والتغلب على المصاعب رغم الإحباطات والإخفاقات والانكسارات، فالحياة أكبر من ذلك ونستحق أن نعيشها.

لا شك أن كل كلمة تتدفق من مسام جلدها تنطق بشيء له معنى يعبر عن الكم الهائل من الأحزان التي عاشتها، ولكن يبقى الشيء الوحيد المرتبط بتلك الشخصية، ألا وهو الأمل في تجاوز المستحيل، وهذا ما نجحت فيه وتجاوزته بفعل تلك الإرادة الفولاذية، فبين لوليتا فلاديمير نابوكوف وأصابع لوليتا قرابة ولو من بعيد، فلوليتا نابكوف في روايته تلك طفلة بهية الحسن لا يتعدى عمرها الثانية عشرة، لم تجد من تلجأ إليه بعد وفاة والديها، فتتتعرض للاغتصاب من قبل زوج والدتها، هومبرت، الذي حاول أن يجعل منها عشيقة له وجزءاً من هوسه المريض وحبه القاتل فدّمرها، وظلت حبيسة لذلك الوحش المنحرف الذي قيّد وسيطر على حياتها وجال بها الولايات المتحدة من أقصى الشمال لأقصى الجنوب هرباً من الملاحقات القانونية باحتجازه لقاصر واللعب بها وتحطيم حياتها ومستقبلها، هذا التصرف الخسيس من هذا الوحش الكاسر المتلاعب جعل تلك الطفلة تعيش قصة مأساوية مع رجل حقير، عديم الأخلاق بعد أن مارس الموبقات مع أخريات، والذي حطّ نظره أخيراً على تلك الطفلة واستعمل معها جميع ألاعيبه القذرة وحرمها من طفولتها، مما اضطرها للهرب منه بعد جهد جهيد.

هل هنالك يا ترى صلة قرابة بين الروايتين، خاصة وأن واسيني الأعرج قد أشار الي رواية نابكوف (لوليتا) في أكثر من موضع وبطريقة فنية، كأنه يوحي لنا بأنه استقى من تلك الرواية روايته (أصابع لوليتا)؟

 نسأل ذلك لأن الخلاصة المستقاة من تلك الروايتين الرائعتين هي أن شخصياتهما تكشف لنا عن شرور مريعة، ويجب أن تجعلنا (لوليتا) جميعًا، آباء ومربين ومرشدين اجتماعيين أكثر حذرًا ووعيّا، لكي نربي وننشئ جيلاً أفضل في عالم ينعم بمزيد من الأمن والطمأنينة كما يقول الدكتور جون رأي في مقدمة رواية نابكوف (لوليتا).