يذكر غاندي في سيرتهِ (قصة تجاربي مع الحقيقة) عندما كان في جنوب إفريقيا، وهاله الوضع الحقوقي والإنساني للهنود خاصة، ومن غير ذوي البشرة البيضاء عامة: “جعلتُ من دين الخدمة دينًا لي، إذ شعرتُ أن الله لا يمكن أن يُدرك إلا من خلال الخدمة”.
في جنوب إفريقيا توسع أكثر في دراسة الهندوسية التي ينتمي إليها، فزاد تمسكهُ بها، إلا أنها لم تُولّد في داخلهِ أيّما كره للأديان الأخرى. فعندما قام بدراسة لكتب تولستوي تركت في نفسه أثرًا عميقًا، حيث أدرك إمكانيات الحب الشامل اللانهائية.
وفي مقارنتهِ بين يسوع وبوذا، استنتج غاندي بأن الأخير لم يكن حنانهُ مقصورًا على الجنس البشري، بل امتد إلى جميع الكائنات الحية. وذات مرة كان على مائدة مع صديقه المسيحي فأخذ يتحدث بسخرية عن قطعة اللحم الموجودة في صحنهِ، في حين راح يطري التفاحة في صحنهِ هو إطراءًا عظيمًا، وبعد هذه الحادثة وبّخ نفسه طويلاً وتعلّم درسًا بليغًا في أهمية احترام الأديان وطقوسها المختلفة.
وعندما قرأ غاندي كتاب (حياة محمد وخلفائه) لواشنطن ايرفنغ، وما كتبه كارليل في النبي محمد ومديحه له، زاد احترامه لمحمد. كذلك يشير غاندي إلى إعجابهِ بالزرادشتيه لما انتهى من قراءة كتاب (أحاديث زرادشت).
كل ما سبق يجعلنا نستنتج أمرين هامين: الأول هو أن القيام بدراسة مُقارنة بين الأديان بعقلية علمية منفتحة تُوصل صاحبها إلى احترام الأديان الأخرى وإلى إبراز الجوانب الإيجابية والإنسانية فيها. الأمر الثاني أن جوهر الدين يكمن في خدمة الناس، وخصوصًا الفقراء والمظلومين منهم، وهنا تكمن قيمته التي يفقدها عندما يصطف الدين ورجالهِ مع سلطة الدولة المستبدة.
ولو ألقينا نظرة فاحصة على مؤسساتنا الدينية بمختلف أطيافها في الوطن العربي، لوجدناها مهتمة بالمظهر في مقابل تهميش الجوهر. نعني بذلك الاهتمام المبالغ فيه بالطقوس والعبادات، وبالدعاء بالويل والثبور على العامة من الناس في عدم التزامهم بخطب الواعظين في المساجد وغيرها، في حين يوجدون التبريرات الواهية لظلم واستبداد رجال الدولة.
وبدلاً من الحديث في خطبهم عن قيم التسامح والمحبة والرحمة والسلام بين الخلق، ينخرون عقول الناس بكل ما هو مثير للحقد والكراهية والعدوانية تجاه المختلف معهم في الدين والمذهب.
لم ترق دعوات غاندي للأغلبية الهندوسية باحترام حقوق الأقلية المسلمة، واعتبرتها بعض الفئات الهندوسية المتعصبة خيانة عظمى فقررت التخلص منه.
وبالفعل، في 30 يناير سنة 1948 أطلق أحد الهندوس المتعصبين ويدعى ناثورم جوتسى ثلاث رصاصات قاتلة سقط على إثرها المهاتما غاندي صريعًا عن عمر يناهز 78 عاماً.
ليتنا نتعلم من غاندي أن الدين قبل الطقوس والعبادات، هو دين لخدمة الناس ورفع العوز والفقر عنهم، وفي إنارة قلوبهم وعقولهم بقيم المحبة والعدالة والعفو والتسامح وحب العلم والمعرفة لإعمار مجتمعاتهم ودولهم نحو الأفضل والأرقى.