التقدّم والتجديد الدائم

0
16

(1)

نحن في نهضة فيجب أن نفهم معاني النهضة. ويجب أيضاً، ألا نقف منها موقف المتفرجين؛ إذ علينا، أن نعمل فيها ونعاونها، ونعيش اتجاهاتها نحو المستقبل. النهضة ثراء وقوة وثقافة وصحة وشباب، ولكن قد يكون الثراء مؤلفاً من نقود زائفة، كما قد تكون القوة والثقافة والصحة والشباب خداعاً وليس حقيقة.        

(2)

فيما بين سنة ٥٠٠ وسنة ١٠٠٠، استولى الظلام على أوروبا، وكان ظلاماً حالكاً؛ لأن الثقافة كانت وقفاً على الرهبان، يبحثون جغرافية العالم الآخر، أي ما وراء الغيب، وهم لا يدرون جغرافية هذا العالم. ويشرحون للناس كيف يجب أن يموتوا، بدلاً من أن يشرحوا لهم كيف يجب أن يعيشوا.

ولكن، رويداً رويداً، تنبه الأوروبيون إلى أنهم جهلاء، ونظروا حولهم، فوجدوا أن الأمم الإسلامية في إسبانيا وفي الشرق، تحيا حياة القوة والذكاء؛ فقصدوا إليها يدرسون وينقلون مؤلفات ابن رشد، وابن سينا، وابن طفيل، وابن حزم، وغيرهم.


ثم لم يقنعوا بما ألفه المسلمون، إذ هم نقلوا أيضاً للغة اللاتينية، مؤلفات الإغريق القدماء، التي كان المسلمون قد ترجموها إلى اللغة العربية، فعرفوا أفلاطون وأرسطوطاليس عن طريق اللغة العربية. واستطاعوا أن يعرفوهم أكثر، عندما هاجر الإغريق من القسطنطينية إلى أوروبا الغربية؛ فأصلحوا أخطاء الترجمة، التي كان المترجمون المسلمون قد وقعوا فيها، عندما نقلوا أرسطوطاليس وأفلاطون وغيرهما إلى اللغة العربية.

(3)


ومضى الناهضون يجترئون ويفكرون؛ ولكن، شيئاً فشيئاً، اتضح لهم، أنهم قد خرجوا وتخلَّصوا من قدماء الكنيسة إلى قدماء الإغريق. قدماء بدلاً من قدماء. وإن العرب لا يختلفون عن القدماء؛ لأنهم اعتمدوا عليهم، أي: على القدماء، حتى إن ابن رشد كان يعتقد، أنه لم يخلق في العالم إنسان مثل أرسطوطاليس. وعندئذٍ تساءل هؤلاء الناهضون: «هل المعارف الحقة الصادقة، تؤخذ من الكتب القديمة أو تؤخذ من الطبيعة ؟”

وهنا نجد رجلاً ألماني الأصل، سويسري الوطن؛ ولد في العام ١٤٩٣م، يدرس القدماء، ثم ينتقدهم، بدلاً من أن يبارك عليهم، وهو: «بارا كيلسوس». والإسم عجيب، فإنه اختاره لنفسه وترك اسمه الميلادي.

لقد كان «بارا كيلسوس» يلقي محاضراته في مدينة «بازيل» باللغة الألمانية، وهنا نتوقف قليلاً: ذلك أن التعليم، كان إلى وقته وبعد وقته، باللغة اللاتينية في جميع جامعات أوروبا؛ ولكنه أبى أن يلقي محاضراته بهذه اللغة القديمة. كان شعبياً، كان عامياً، أي مع الشعب. واجترأ على أن يعلم بلغة العامة، اللغة الألمانية؛ وكان أول من أقدم على ذلك، في أوروبا جميعها. وكانت محاضراته خاصة بالطب والعلاج. وذات صباح، بعد اختبار وقلق، وتساؤل وأرق، رأى أن يقف الموقف الحاسم في تاريخ أوروبا؛ بل في تاريخ الإنسان. فلم يذهب إلى الكلية لإلقاء محاضراته، كما كانت عادته. ولكنه جمع مؤلفات ابن سينا ومؤلفات جالينوس، وحملها على ظهره، إلى أن وصل وهو يلهث إلى ميدان المدينة، وهناك وضعها أمامه على الأرض وشرع يخطب: إن القدماء ليسوا أفضل منا، وهم لا يعرفون مقدار ما نعرف. إن دراسة القدماء نافعة، ولكن دراسة الطبيعة أنفع منها. إن الكتب القديمة تحفل بالأخطاء، ولم يكن مؤلفوها معصومين.

(4)
لقد انطلقت في أيامنا حيويةٌ جديدةٌ في بلادنا، تجدد القيم والأوزان، في معاني الحياة والاجتماع والرقي؛ ولكننا لا نزال في اختلاط وارتباك وتردد، لا نعرف، هل نأخذ بالقيم القديمة أم بالقيم الجديدة.

ما هي النهضة ؟

هل هي القيم القديمة ؟

إن أسوأ ما أخشاه، أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم، وأن ننتصر على المستغلين ونخضعهم، ثم نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا، ونعود إلى دعوة: «عودوا إلى القدماء».

*من مقدمة كتابه: “ما هي النهضة”.