سيرة ابن الرجل الذي يقطع الحجارة في أعماق البحار!

0
19

ولد محمد خليفة حسن ياسين في مدينة الحد الساحلية شمال شرق مملكة البحرين في العام 1946، ومسمى الحد في اللغة العربية يطلق على اللسان الممتد من الرمال في البحر، وأهل البحر في الخليج العربي يطلقونه على كل شريط رملي يظهر في عرض البحر ويمنع السفن من اجتيازه حتى في ساعات المد، لذا تربى “بابا ياسين” في بيئة بحرية يمتهن أهلها كل مهن البحر وما حولها، فتشبع من هوائها ومائها ونشأ طفلا يتبع أبيه في خطاه وفي مهنته.

لم يكن والده لين الطبع معه، قسوة البحر عودته على الخشونة التي أرادها لابنه، لم ينزعج حينما سأله أحد رفاق البحر عن ابنه الذي اشتهر بمونولوجاته في المدرسة وخارج المدرسة وسأله ببساطة هل توفي فعلا كما يقال؟ فرد عليه الوالد بنفس البساطة: “أكا ولدي موجود!”

واجه بابا ياسين الموت طفلا مرات عدة؛ أولها كان رضيعا في “قماطه” حين عانى من أمراض الطفولة المعتادة وحين نقل للدكتور الوحيد في المحرق “بندر كار” أخبر والده أنه لن يعيش كثيرا من شدة المعاناة، لكن الأقدار تنقذه وتتنبأ جارتهم أن هذا الطفل المريض سيكون له شأن كبير! ومرة أخرى وفي عمر السنتين حين أفلتت يداه من يد والده على ساحل البحر، وتمت مشاهدته “طافحا” ليتم إنقاذه ويفلت مجددا.

ولعل الموت كان شائعا بالطريقة التي يسلم فيها الناس بالموت هكذا، باعتباره قدرا ألهيا لا تدخل فيه، فلا هم يخشونه ولا ينتظرونه لكنهم قد يتعرضون له، فحين كان بابا ياسين طفلا كان يرافق والده في البحر؛ والده الذي يعبر عن جيل كبير من الآباء الذين ذاقوا قسوة الحياة فصارت طبعا متأصلا في سلوكهم مع ابناءهم، ليقينهم أن هذا سيمكنهم من مواجهة مصاعب الحياة، فكان يساعد والده في عمله الشاق حتى وصل الماء للحد الذي لا يتمكن الصبي من التنفس! وحتى مع حدوث هذا لم يلن قلب الوالد، إذ اعتبره تمرينا آخر على مواجهة أخطار المهنة.

أما المسمى الوظيفي الذي ابتكره بابا ياسين لوالده الذي كان يعمل عملا شاقا ومؤلما في مقابل مردود بسيط، فقد كان في اثناء مرحلة انتقاء الطلاب الذين سيتجهون للدراسة في الثانوية ليكونوا معلمين، ولما كان الإقبال شديدا على هذا القسم، حاول القائمون على المسألة تقليل العدد عبر التفاوض وإقناع بعض الطلبة بالتحوّل لتخصص آخر، خصوصا إذا كانوا أبناء ذوي مهن متواضعة، فيكون من السهل ازاحتهم لسبب أو لآخر، وقد أدرك بابا ياسين هذا وتمسك برغبته في سلك التدريس حتى مع يقينه بأنه يمكن أن يعد من أبناء البسطاء، وهكذا لجأ للتمويه وأخبر المعنيين بأن والده يعمل في قطع الحجارة من أعماق البحار، فهموا حيلته وأنقذه ذكائه من دراسة ما لا يرغب.

قرر الطفل محمد أن يرافق صديقه لبيت جدته في المحرق، بعد الحاح الأخير على أن يعودا سريعا للبيت في مدينة الحد، كان التنقل للمحرق يتطلب ركوب حافلة (البست) ودفع أجرة تكفل بها صديقه في رحلة الذهاب، ولما دخل صديقه بيت جدته لم يخرج إلا بعد ساعات كان بابا ياسين فيها قلقا من التأخير ولخروجه خلسة دون معرفة أو استئذان أحد، وما حدث هو أن هذا الصديق انصاع لرغبة أهله في البقاء معهم، وأمر بابا ياسين بالعودة وحيدا ولا يملك أجرة العودة في الحافلة! مع إقناعه أنه في حال الوقوف بجانب باب الخروج الخلفي في الحافلة لن يطالبه أحد بتذكرة الركوب، وهكذا كان حتى جاء المحصل وهو يسأل بصوت عال مسموع: “من معاه هالياهلِ؟” والتفت كل الركاب لهذا الطفل المرعوب من الموقف وإذا بصوت يألفه جيدا يقول للمحصل بحده: “خله”، كان هذا الصوت لوالده الذي يمكن التنبؤ بما نواه لابنه من ردة الفعل! وما يذكره بابا ياسين من هذا اليوم هو أن اقتيد بغضب شديد لغرفة مظلمة، وذهب والده للبحث عن “أداة” مناسبة لتأديبه، وفي هذه الأثناء استطاع الإفلات من الغرفة ليهرب خارج البيت حتى منتصف الليل خوفا من العقاب الشديد المنتظر، إلى أن انتهت المسألة بواسطة الوالدة التي أدخلته المنزل خلسة وأعطته ما يقتات به ليهدأ ويستقر، ورغم أن الوالد قد غرس عمود الحديد (الهيب) في “حوش المنزل” امعانا في تأكيد غضبه لتصرف ابنه في عدم الاستئذان، لكنه استوعب مقدار الخوف الذي زرع في قلب الصغير واكتفى بهذا.

في الصف الثاني الابتدائي وفي مدرسة الحد الجنوبية بدأت رحلة “بابا ياسين” مع المسرح، حيث الحفل السنوي الذي تنظمه المدرسة بحضور المدرسين وأولياء الأمور والوجهاء وكانت المشاركة الأولى وبدء حياته الفنية عبر شخصية “الذئب” في مسرحية “محكمة الحيوانات” لحبه للتقليد ولمعرفة زملائه الأكبر منه سنا من المشاركين في نفس العرض هذا الموضوع، فكانت الفوهة التي جذبته إلى هذا العالم الذي أحبه وترعرع في نفسه وكبر فيه وكأنها كانت “النداهة” التي أخذته من مجال لآخر لكنها تصب في نفس مجرى العذوبة بين أكثر من فن.

لكن النقلة النوعية التي أدخلته عالم الفن والإعلام والأطفال هو ذلك المونولوج الذي قام بتأليفه له الإذاعي القدير الأستاذ عتيق سعيد معلم بابا ياسين في المرحلة الابتدائية بمدرسة الحد، والذي انتقل إلى إذاعة البحرين لاحقا- الذي يعد من مؤسسيها- حيث كان يعد ويقدم البرامج الإذاعية المعنية بالشعر والتمثيليات التي كان لها مستمعين كثر، كما عمل مصحح لغوي للأخبار وألف كلمات أغاني لبعض الفنانين من داخل وخارج البحرين. وكان عتيق هو الواجهة الأولى لبابا ياسين في هذا العالم، حيث كتب له مونولوج الدروس الذي يقول فيه بمصاحبة الكورس أبياتا معنية بكل المواد الدراسية، وظف فيه مفردات قريبة لأجواء الطلبة وهو بذلك يضمن استحسانهم وقبولهم وأيضا قبول واستحسان الحضور، حيث حصد منها الطالب محمد ياسين وهو في الصف الخامس الابتدائي، كسوة كاملة وعشرين روبية من تاجر بحريني معروف، والأهم من كل هذا: قاموس جيب صغير هدية من الشاعر البحريني الكبير إبراهيم العريض كتب له على غلافه الداخلي بخط يده: “أخي الطالب النجيب “محمد خليفة ياسين لقد كنت موفقا في أداء أدوارك المختلفة على مسرح مدرستكم قبل أيام فعسى أن يأخذ الله بيدك أن تكون موفقا في دورك الحقيقي على مسرح الحياة..21 أبريل 1958” وقد كان! فتحت الأبواب وترتب القدر بمشيئة الله ليكون هذا الطفل الحدي ابن الرجل الذي يقطع الصخور في البحار علامة للطفولة وممثلا دراميا في المسرح الذي بدأه مبكرا جدا، وفي التلفزيون والسينما والإذاعة، والعمل المجتمعي الذي لم ينفصل عن فنه وانسانيته قبل كل شيء.

ورغم فرحة الصغير بما كسب من مال وكسوة من التاجر وقتها، ألا أنه أدرك أن القيمة في القاموس الذي كان آخر اهتماماته حين استلم جائزته أمام الطلاب، وربما أدرك منذ ذاك الوقت، أن القيمة في الأثر فقط، وعمل على هذا في عمره الذي امتد لخدمة الصغار قبل الكبار في مجتمعه ووضع بصمة لم تتكرر حتى مع وجود المحاولات والاستنساخ أو التقليد الذي لم يدم طويلا، ذلك أن العمل مع الأطفال ليست مهنة للتربح على المدى البعيد أو القريب لكن لابد للمشتغل بها أن يكون محبا حقيقيا للأطفال وشغوف بعالمهم ومؤمن بما يمنحه لهم دون انتظار مقابل، ودون أن ينفصل هذا عن هذا العالم حتى في حياته الشخصية.

ومن مدينة الحد أيضا انطلقت مواهب بابا ياسين التمثيلية فيما بعد مرحلة المدرسة وبداية المونولوجات، حيث انضم لنادي الحد الذي كان مشهورا بتقديم التمثيليات والاسكتشات المسرحية، وكان يكتب النصوص سالم الجوهر، ويمثل بالإضافة إلى ياسين عبدالرحيم خادم وعيسى أكبر وأحمد المالود وإبراهيم سعد ومحمد ناصر، للتمثيلية تقام مرة سنوية مما يعني تكريس كل الجهود في هذه المرة، ومن هذه المجموعة تم تأسيس مسرح الحد الشعبي الذي اندمج بعد ذلك مع مسرح الاتحاد بالمحرق في العام 1970.قدرته على القص واحكام القبضة على أقرانه بكف من الحكايات التي يعلقها بهم وبأسلوبه الشيق في الابتكار التلقائي، دفع معلمه للطلب من بابا ياسين وهو طفل في الابتدائية أن يلهي زملائه في وقت غياب المدرس عن الحصة بقصص يعرفها هو؛ فيخيرهم: بنهاية أو من غير؟ والفارق بينهما أن القصص التي لها نهاية معروفة وقد يكون سمعها من والديه أو من الجد والجدة، بينما القصة التي من غير نهاية يقوم فيها بابا ياسين بإعمال خياله في نسج شخصيات ووقائع وأحداث مستمرة لدرجة أنه يقسمها لأجزاء يسرد الجزء منها تلو الآخر حين يستعين به المعلم لإسكات زملائه وتهدئتهم في أوقات الدراسة وبين الدروس، وربما هذا ما فعله لاحقا في برامج الأطفال التي كان يعد لها وحيدا أو مع آخرين، بنفس النمط الجاذب لمستمعيه من الصغار حوله أو المشاهدين له عبر شاشات التلفزيون حتى صار مع الوقت أيقونة مقدم برامج الأطفال مع آخرين في الخليج وأصبح “بابا ياسين” لقبا ملازما له حتى الآن.