قبل سنوات كشف لي زميل استغرابه من عمق ذاكرتي وسرعة بديهتها! ابتسمت بمضض واستذكرت على الفور ابتسامة ذهولٍ أخرى لصديقة حين سألتها “هل ما زلتِ عند الصفحة 44 من الرواية …؟”، أمتلك ذاكرة قوية لا ينتشل النسيان منها الأرقام أو التواريخ، الأحداث والأشخاص، رغم ضياع بوصلة الطريق.!
تساورني أحياناً هواجس الإصابة بالزهايمر.. فأتساءل هل أصاب بمتلازمته المبكرة مثلما سرق ذاكرة نسرين طافش في مسلسل “شوق” وهي في مقتبل الشباب والزهوْ؟ أستيقظ من النوم بلا مفارقة لأشيائي الجيدة وأحداثي السيئة؟ هل يأكل النسيان أيامي الرديئة قبل الطيبة؟ فأغدو بلا ذكريات.. بلا خطوط وتجاعيد وتفاصيل مرهقة أو لذيذة..؟ أنسى ابتسامة أمي وتقاسيم أبي ضحكات أخوتي ومزاح صديقاتي؟ أخال أنّ النسيان هو أن تخز إبرة الذكرى قماشة قلبك ولا توجعك!
لعل ثنائية الذاكرة والنسيان من أهم الجدليات الفلسفية الشائكة التي لطالما أرقت أساتذة الفلاسفة على مر الزمن. ففي السياق اليوناني استطاع أفلاطون أن يزاوج الجهل بالنسيان والمعرفة بالتذكر، وفي الفلسفة الحديثة تمكن جون لوك أن يعزز الذاكرة ويعتبرها محدداً رئيسياً لتبيان هوية الشخص. أما نيتشه فقلب المعادلة معيداً الاعتبار للنسيان باعتباره شرطا وجودياً لسعادة الفرد والمجتمع. ومن هذه الزاوية يمكننا أن نتأمل بشكل جلي العلاقة بين بالذاكرة والنسيان. فإذا كانت السعادة هي الغاية التي لطالما بحث عنها الإنسان فهل تحقيقها منوطاً بالتذكر أم النسيان؟ وهل يمكننا خلق موازنة شعورية بينهما؟
يرى نيتشه بأن الحيوانات قد تعيش حياتها سعيدة أكثر من الإنسان؛ لأنها تخوض أيامها بلا تاريخ، فهي تعيش حاضرها كما هو ولا تخفي شيئاً، إذْ أن هذه الكائنات لا تملك إلا أن تكون صادقة كونها الأكثر قدرة على النسيان. أما البشر فيعجزون عن تجاوز بعض ذكرياتهم من أجل المضي بسعادة. لا يهتم الطفل مثلاً عند ولادته بشيء دنيوي، يخلق عوالمه الخاصة بين الألعاب والدمى ولا يستحضر شيئاً في ذهنه إلا ما هو عليه؛ لأن هذا الطفل يجهل ماضيه فلا ذاكرة تؤرق أوقاته، لكن لا يمكن لهذا الطفل أن يستمر على هذا المنوال، وسرعان ما يخرج في وقت مبكر من حالة النسيان إلى حالة التذكر، ليصبح كائناً محكوماً عليه بالأسى والشقاء.
يشدد نيتشه أن “اللاتاريخي” و”التاريخي” عنصران ضروريان لصحة الفرد والمجتمع والكيان الثقافي؛ فالنسيان هو الذي يجعل الذاكرة تضيء جزءً من “التاريخي” وتترك الجزء الآخر غارقاً في عتمة النسيان، مما يعني أن الذاكرة تتفاعل مع الماضي على نحو انتقائي، لأن الحديث عن الإنسان ككائن محكوم بماضيه يختلف عن الحيوان الذي لا تربطه أية علاقة بماضيه، فالنسيان أو ”اللاتاريخي” لا يُقصد بهما ”فقدان الذاكرة” كما لا يُقصد بالتاريخي سطوة الماضي على الحياة، وبالتالي فالنسيان المطلق والحضور الحادّ للذاكرة يشكلان خطراً على حياة الفرد بل أكثر من ذلك على حياة المجتمع والحضارة.
بإمكاننا القول إن اهتمام الجينيالوجي بالتاريخ “الذي عبر عنه فريدريش نيتشه” يتنافى تماماً مع الاهتمام بجوهر التاريخ “كما هو الأمر في الفلسفة الميتافيزيقية” حين تبحث عن العلة الأولى. فمنذ البداية ونيتشه يبيّن الفارق بين الحيوان والإنسان من خلال تعاملهما مع عنصري الذاكرة والنسيان، كون الإنسان كائن تاريخي بامتياز، له ذاكرة مبعثها من الماضي عكس الحيوان الذي يعد كائن لا تاريخي. لذا فإن مهمة الفيلسوف هي التفكير في التاريخ على المستوى النقدي لمساعدة الإنسان في الانفتاح على الحياة.
يتردد التاريخ عند نيتشه في 3 مناطق، فمن جهة نجد ”التاريخ الأثري” وهو المتعلق بحنين البشر إلى موطنهم الأصلي ومكان نشأتهم وجذور هوياتهم، وهو المشيّد على قيّم كالإخلاص والوفاء مما يقف أمام تنامي الإبداع. يقول نيتشه إن ”التاريخ الأثري” هو القناع الذي يرتديه غير القادرين على الانسلاخ منه على كبار زمنهم، فهو القناع الذي يحاولون تقديمه مثل تعبير عن الإعجاب المشبع بعظماء زمنهم. إن هذا القناع يسمح لهم أن يغيروا المعنى الحقيقي لهذا التصور عن التاريخ إلى معنى مناقض تماما. من منطقة ثانية يتحدث نيتشه عن “التاريخ العادياتي” الذي يتطلب العودة إلى الماضي الأصيل الذي يحظى بالهيبة والاحترام، وفي هذه العودة استلهام حي لأمجاد الماضي بغية السمو بالحاضر إلى درجة الماضي وهذا ما يعبر عنه نيتشه “إن المعنى العادياتي لإنسان ولمدينة ولشعب بكامله يمتلك أفقا محدودا،فهو ليس بإمكانه رؤية أغلب الأشياء، والقليل مما يراه يبصره عن قرب، وبشكل منعزل”. ومن فضائل هذا التاريخ أنه قادر على المحافظة على الحياة، لكن من عيوبه عدم قدرته على خلقها لذا فهو يعوق اتخاذ قرار ناجع لكل ما هو جديد. أما في المنطقة الثالثة فالإنسان يحتاج إلى جانب “التاريخ الأثري” و”التاريخ العادياتي” إلى منحنى آخر من التاريخ وهو ”التاريخ النقدي”، الذي يهتم بإخضاع الماضي للمساءلة والنقد، إذْ أن الحياة تحاكم الماضي عندما يغدو طاغياً على الحاضر ”فكل ماض يستحق الحكم عليه؛ فهذا واقع الأشياء الإنسانية التي غالباً ما تكون تحت سياط الضعف والقوة الإنسانيين، إنها ليست العدالة من تحاكم وتحكم، ولا حتى الرحمة من تنطق هنا بالحكم، ولكنها الحياة وحدها، إنها تلك القوة، أي تلك القوة المعتمة والدافعة”.
صناعة التاريخ عند نيتشه تنبع من الحاضر، وهذا يعود بلا ريب إلى الأهمية التي يوليها للحياة التي تشكل عصب التاريخ حيث لا قيمة له إذا لم يكن في خدمة الحياة، وكل ذلك من أجل بناء كينونة جديدة ناقدة لطغيان الماضي على الحياة. فكيف يمكننا التحرر الانفكاك من طغيان الماضي البعيد على الحاضر الراهن؟
يرى نيتشه بأن طغيان ”الثقافة التاريخية” على الحياة هي نوع بليد من الشيخوخة التي تبدأ مع الولادة ويؤكد أن الذين يتسمون بسماتها يصلون إلى الاعتقاد الراسخ بشيخوخة البشرية، ومن بين مميزاتها النظر إلى الوراء، وتقييم الماضي واستخلاص النتائج والبحث عن عزاء، وهي قد تؤدي إلى تكوين ذاكرة التي يطلق عليها بول ريكور “الذاكرة الجريحة” التي تجعل الإنسان حزيناً عندما يسيء استعمالها.
ويقترح نيتشه ”اللا تاريخي” الذي يعني به الفن والقدرة على النسيان و”الفوق- تاريخي” الذي يعني به القوى التي تحول نظرنا عن المصير باتجاه ما يعطي الوجود طابع الخلود، إن هذا المقترح هو البديل الحقيقي والترياق الطبيعي ضد غزو التاريخ للحياة وضد الحمى التاريخية، ويضع في الشباب ثقة كبيرة لأنهم هم الذين يرغبون في ثقافة وإنسانية أكثر شجاعة وجمال، ولا ينفي نتشه حجم المعاناة التي يعانيها الشباب أثناء مجابهته هذا الطغيان. إذْ إن هؤلاء الشباب الذين يشبههم نيتشه “بقتلة الثعابين” يمتلكون من صحة وجسارة وأمل ما يكفيهم للانتصار للحياة والإبداع ضد الثقافة التاريخية التي تسيطر على الحاضر وتحبسه خلف جدران العدم.
تتجلى أفكار نيتشه في قدرته على تفكيك مفهوم التاريخ وتحويل العناصر الثابتة فيه إلى متغيرات، بل وقدرته على إعادة الاعتبار إلى ملكة النسيان من خلال إقامة موازنة ملهمة بين ”التاريخي” و”اللاتاريخي” خدمة للحياة، ويشبه في ذلك تعزيز سيغموند فرويد لـ ”اللا وعي”، إذْ حطم نيتشه كل المفاهيم التي بُنيت عليها فلسفة التاريخ الهادفة إلى الانحناء أمام قوة التاريخ.