من ذاكرة الصحافة

0
68

أجمل من مارلين

في مطلع صدور صحيفة “الأيام” في السابع من مارس عام 1989، تقدّم للعمل فيها عدد كبير من الشباب والشابات. كنّا في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات نفتقد الصحفيين البحرينيين، وخريجي الإعلام والمحترفين وأصحاب الخبرة  إلا ما ندر. لاحقاً تأسست كلية الإعلام في جامعة البحرين عام 2002، وأمدّت الصحف والمطبوعات الجديدة بعددٍ كبير من الخريجين والخريجات.

وقد استقدمت الصحيفة الوليدة جميع رؤساء الأقسام ومدير التحرير من مصر أولاً، ثم الأردن لاحقاً. كانت الجريدة تصدر في 24 صفحة، وتحتاج مادة محلية متدفقة وغزيرة يومياً، ولم يكن طاقم التحرير المتوفر قادراً على تلبية احتياجاتها، لذا فتحت الصحيفة الباب للتوظيف الصحفي، وكنّا نسأل المتقدم للوظيفة عدّة أسئلة بسيطة تتعلق بهواياته وميوله، والأهمّ قدرته على الكتابة الصحيحة، وعني شخصيا فقد كنت أهتم بسؤال أوًلي لطالب الوظيفة: ماذا تقرأ ؟، إذ كنت أرى أنه الطريق الأسهل لمعرفة الشخص.

على أنّ هناك من الطرائف التي لا تنسى في هذا المجال.

إذ تقدمت إلى الصحيفة شابة مغطاة بالكامل من رأسها الى أخمص قدميها، وجلست تتحدث معي عن رغبتها القوية في امتهان الصحافة، واشترطتُ عليها ان ترفع “البوشية” على الأقل، كي أرى تعابير وجهها، قالت: ليخرج الشباب من الصالة أولاً، وامتثلتُ لأمرها وأخلينا الصالة من جميع الذكور، ورفعت الفتاة نقابها، وكانت فتاة عادية ومتواضعة الجمال، قلت لها:

– لماذا تغطين وجهك؟

* لأن الجمال يفتن 

– وجه كوجه مونرو هو الذي يفتن.

* أنا أجمل منها 

واحتجتُ وقتاً طويلاً لإقناعها بأن إظهار الوجه ضروري للتعاطي مع الصحافة والمصادر الخبرية ومقابلة الناس، لكنها أصرّت ان لا شيء يمنع العمل الصحفي بغطاء الوجه ثم اختتمت: “الآن وفي هذا العمر، وفي البيئة التي أعيش فيها فإن رفع النقاب صعب جداً، لكني سأحاول.

وذات مرة سألتُ أحد المتقدمين للوظيفة

  • ماذا تقرأ؟ 
  • ·          أنا لا أقرأ أبداً

  – حتى الجريدة؟ 

  • وخصوصا الجريدة، بل إني أكره الجرائد، ولم أتصفح يوماً جريدة في حياتي.  

         – وكيف ستعمل في مكان وأنت تكره المنتج الذي يصنعه؟

  • ·          أتعلًم منكم … إذا وظفتموني 
  • التدريب قد يكون طريقاً طويلاً لكنه ليس مستحيلاً… 
  • يعني … لا توجد فرصة؟ 
  • توجد إذا رغبت وأقدمت على التعليم والتدريب في المهنة.
  • –          أين تعمل الآن؟
  •  أعمل طبالاُ في فرقة الطرب الشعبي، فرقة “قدور”.. هل سمعتِ بها؟  (قدور فرقة طرب وغناء شعبي راجت في السبعينات والثمانينات). وأضاف: أريد عملاً يدرّ عليّ دخلاً  ثابتاً ومستقراً وغير متقطع، فأنا – أصارحك القول – بلا مواهب  سوى العزف على الطبلة”.
  • إقرأ الصحيفة أولاً ثم تعال إلينا ونحن سنتكفل بالباقي.  

وقبل أن يغادر استدار قائلاً: سأحاول.

    هكذا كان شأن جريدة “الأيام” في بداياتها، ظلت تستقطب أشكالاً وألواناً من المبتدئين والمبتدئات، وبعضهم أقدم على المحاولة معتقداً أنها مهنة سهلة ومقدور عليها، لذلك كنا نسميها مهنة من ليست له مهنة ولا شهادة، إذ يكفي أن يجيد المرء اللغة العربية كتابة وتحدثاً حتى يلتحق بها ويتعلم المهنة سريعاً ثم تتكفل الممارسة اليومية بصقل تجربته وتدريبه على قواعدها ومحاذيرها، ولكن ولأنها كانت ولا زالت اقرب الى “درب الزلق” فإن كثيرين لم يُعمروا فيها، وغادروها سريعاً مع أول تحدٍ.

وقد تبين لي لاحقاً أن الشباب القادمين من ملاعب الكرة والبنات الرومانسيات عاشقات الشاعر نزار قباني، هم الذين تركوا العمل الصحفي باكراً،  وفي حين تعامل معها آخرون كساحة للنضال وصنع التغيير، وجد فيها البعض طريقاً سهلاً للصعود الشخصي، مع أن مواهبهم لا تختلف كثيراً عن مواهب طبًال فرقة “قدور”، بيد أن العصر الرقمي كان قاسياً على الصحافة إجمالاً، والصحافة الورقية والتقليدية بشكل خاص، والتي لم تعدّ من المهن المرغوبة والواعدة والمستقرة الراتب، كما كان يراها ذلك الشاب عازف الطبل. تبدلت وتحولت ويهددها اليوم منافسون كثر، وفي مقدمهم ما صار يعرف بالذكاء الاصطناعي وبرامج شات جي بي تي chat gpt، كما صار بإمكان صحفي واحد أو عدّة صحفيين أن ينشئوا صحيفة رقمية كاملة وهم جالسون في مقهى، دون الحاجة إلى مبنى أو مطبعة أو جهاز إداري.