أأنتَ هو مكدرُ إسرائيل؟

0
66

حول فلسطين وطوفان الأقصى

القضيّة الفلسطينيّة والقضيّة الصهيونيّة

          يحدث أنّنا نعيشُ في وسط أحداثٍ غرضها أن تختبرَ قُدرة النكوصيّينَ على التعاملِ مع الواقع. فقد فشل قسمٌ مِنهم في اختبارِ أوكرانيا، واختاروا الفرعون شيشينبينغ وهامانه بوتين وهلّلوا ”هوشعنا يشوعنا“ كُلّما ظهرا بكلمةٍ متلّفزةٍ أو بإعلانٍ حزبيّ كُتب بكسلٍ لا مثيل له. والآنَ يفشلونَ ثانية في اختبارِ فلسطين، ليس لأنّهم اختاروا موقفاً خاطئاً، بل حسناً فعلوا في الوقوفِ مع الحقّ المطلق للشعبِ الفلسطينيّ ضد الصهيونيّة، وإنّما لأنّهم لا يعرفونَ لِمَ اختاروا موقفاً صحيحاً، ولا يعرفونَ ماذا يصنعونَ بأنفسهم ولا بأقوالهم.

          يا أيّها النكوصيّون، أراكم مضطربينَ ولا تستطيعونَ أن تُخرجوا أنفسكم مِن العقد اللغويّة والمفهوميّة التي عقدتم أنفسكم بها. فتراةٌ تقولونَ للفلسطينيّينَ إنّ قضيتهم قوميّةٌ عربيّة، وتارةٌ تقولونَ إنّها إنسانيّة، وأخرى تقولونَ إنّها ثوريّة، وغيرها مِن التوصيفات المجانيّة التي تقدّمونها. ولمّا كنتم، رغم كُلّ هذا الاضطراب، لا تؤثّرون على النظرةِ التي يرى عبرها الفلسطينيّونَ أنفسهم (بطبيعةِ الحال)، فإنّكم، في حقيقةِ الأمر، تحدّثونَ أنفسكم فقط، إذ تحاولونَ إقناع أنفسكم (قبل أيّ شخصٍ آخر) بأيّةِ نظرةٍ عليكم تبنّيها، وبأيّ موقفٍ عليكم أن تتّخذوه؛ وبالتالي تبنونَ مواقفكم مِن القضيّةِ ككُلّ على توصيفاتٍ أخلاقيّةٍ فحسب.

          مع ذلكَ، يبقى الموقفُ النكوصيّ اليوم مِن القضيّةِ الفلسطينيّة، بفضلِ عقودٍ مِن الإيمان الراسخ والمتواتر، أفضل مِن الموقف الليبراليّ (الذي تبنّاهُ بعض النكوصيّينَ الليبراليّين) المتغنّج الداعي إلى شعاراتٍ مدلّلة وناعمة مثلَ ”السلام“، و”المحبّة“، و”التعايش السلميّ بينَ البلدين“، متجاهلاً حقيقة الحرب الصهيونيّة على الشعب الفلسطينيّ.

          تختلف القضيّةُ الفلسطينيّةُ اليوم، مِن ناحيةِ طبيعتها، عن الأمس، ولمّا كانت فلسطينُ بؤرة التحرّر الوطنيّ في الشرقِ الأوسط، فإنّها اليوم قضيّةٌ وطنيّةٌ هدفها تحرير الشعب الفلسطينيّ مِن الإبادةِ الصهيونيّةِ التي تُمارس عليهِ على نحوٍ ممنّهج، وبالتالي أنّها قضيّةٌ وطنيّةٌ هدفها إقامة دولةٍ قوميّةٍ للشعب الفلسطينيّ.

          وعلى ماذا تقومُ القضيّةُ الصهيونيّةُ بالتحديد؟ سأدع هرتزل يُجيب عَني: “إذا أردنا أن نبني دولةً اليوم، فعلينا أن نقومَ بذلكَ عبر وسائلَ تختلف عن تلكَ الوسائلِ المتاحة لنا قبل ألف عام. وسيكون المرءُ غبيّاً إن اعتقدَ أنّه مِن الممكن أن نعودَ إلى الحقب الحضاريّة القديمة، كما يُطالب بعض الصهاينة. افترضوا، على سبيلِ المثال، أنّنا أردنا أن نُخلي أرضاً مِن الحيوانات المتوحّشة، فلن يكون مِن الممكن أن نستعملَ الوسائل العائدة لأوروبا القرن الخامس، حيث كُلّ مِنا يأخذ رمحاً ويصطاد بهِ الدبّبةَ على نحوٍ فرديّ. على العكس، سيكون علينا أن ننظّمَ فرقة صيادينَ كثيرة العدد، وبها نلحقُ تلكَ الحيواناتِ ونجمّعها جميعها في مكانٍ واحد، وبعدها نُلقي عليهم متفجّرات الميلانيت”.

          إنّ وصفَ العرب بالـ ”الحيوانات“ هو أمرُ طبيعيّ في القاموس الصهيونيّ كما أثبت لنا يوآف غالانت مؤخّراً، ولعلّ هرتزل لم يرَ أنّ فلسطينَ (أو الأرجنتين، أو غيرها مِن البلدانِ التي كان يطمح إلى إقامة دولتهِ فيها) مسكونةٌ بالبشر لأنّه يفترض إبادتهم سلفاً، أو في أفضل الأحوال: طردهم عبر إبادةِ بعضٍ مِنهم. القضيّة الصهيونيّة قائمةٌ على بناءِ دولةٍ قوميّة لليهودِ على حسابِ تجريدِ الفلسطينيّينَ مِن دولتهم القوميّة، وبالتالي أنّها ليست قضيّة بناء دولةٍ قوميّةٍ للشعبِ اليهوديّ فحسب (وهذا أمرٌ لا يمانع عليه أحد، ورأينا أمثلةً على ذلكَ في التجربةِ السوفيتيّة مع المقاطعةِ اليهوديّة المستقلّة)، وإنّما بناء تلك الدولةَ عبر تجريد قومٍ آخرَ مِن دولتهم القوميّة. إنّ الفكرةَ وراء التحرّر القوميّ هو هو التحرّر، وليس استعباد أمّةٍ أخرى، إذ معها تنتفي فكرة التحرّر مِن الأساس.

          أعلم جيّداً ما سيقولهُ المتغنّجونَ الليبراليّونَ الضعفاء: “ألا يُمكن لدولةٍ يهوديّةٍ أن تُعيشَ بسلامٍ مع، وجنباً بجنب، دولةٍ عربيّة فلسطينيّة؟”، نعم هذا أحد الممكنات بشرطِ ألّا تكون هذه الدولة اليهوديّة دولةً صهيونيّة، أي إنّ هذا القرارَ يجب أن يتّخذه الشعب الفلسطينيّ، بمسلميه وبيهوده، بعد التحرّر مِن الصهيونيّة كُلّيّاً. مَن يؤمنُ بأنّه مِن الممّكن أن تتعايشَ الصهيونيّةُ بسلام، وجنباً بجنب، مع فلسطين لا يفقهُ في السياسةِ شيئاً. كيف يُمكن لهما أن يتعايشا إن كانت الفكرةُ الصهيونيّة نفسها، القضيّة الصهيونيّة نفسها، قائمةً على تجريدِ الفلسطينيّينَ مِن أراضيهم؟

          فمنذُ 1967، ساهمت ”إسرائيلُ“ مباشرةً في عرقلةِ الوحدة السياسيّة والاقتصاديّة للبورجوازيّةِ الفلسطينيّة، وبالتالي البورجوازيّة الفلسطينيّة غير قادرةٍ على التبلوّر كُلّيّاً، بل هي غير قادرةٍ على النموِ والتطوّرِ كُلّيّاً، ليس لأسبابٍ بنيويّةٍ مانعة، وإنّما لأسبابٍ تتّصلُ مباشرةً بوجود إسرائيلَ كعامل معرّقل لتطوّرها. بالتالي، البورجوازيّة الفلسطينيّة غير قادرةٍ على تحقيقِ الوحدةِ السياسيّة لأنّها غير قادرةٍ على تحقيقِ الوحدة الاقتصاديّة، وهذه غير ممّكنةٍ مِن دونِ تلك، وتلكَ مِن دونِ هذه. لهذا السبب جزئيّاً، نجدها غير قادرةٍ اليوم على قيادةِ صراعٍ موحّد. في الوقت ذاته، لا نجد أنّ المنظّمات الشعبيّة الفلسطينيّة موحّدةٌ بطريقةٍ يُمكن أن تشكّل عبرها بديلاً لهيّمنةِ البورجوازيّة الفلسطينيّة عليها. طالما تهيّمن البورجوازيّة الفلسطينيّة على الحركةِ التحرّريّة الفلسطينيّة، ستكون دائماً النتيجةُ حرّيّة نصفيّة للشعبِ الفلسطينيّ. وحدها التآلفيّة ستُعطي الشعب الفلسطينيّ حرّيّته الكاملة، ولكن ذلكَ لهو هدف التآلفيّينَ القصويّ، أمّا اليوم، عمليّاً، لا يُمكن للتآلفيّةِ إلّا أن تقفَ مع مطالبَ الشعب الفلسطينيّ في نيلِ الحرّيّة الكاملة والمطلقة؛ هذه هي القضيّة اليوم، وهذه الحلقة الحاسمة في فلسطيَن اليوم. فثلاثُ ويلاتٍ لاشتراكيّ يفشل في دعمِ القضيّة الفلسطينيّة، وثلاث ويلاتٍ لاشتراكيّ يزعم أنّه لن يدعم القضيّة إلّا حينَ تصبح اشتراكيّة، وثلاث ويلاتٍ لمَن يدعم وهو أعمى.

طبيعة المقاومة الفلسطينيّة منذ طوفان الأقصى

في السابع مِن أكتوبر شنّت منظّمة (حماس) عمليّةً هجوميّةً فجائيّة غير مسبوقة، سمّيت بعمليّةِ (طوفان الأقصى)، على الاحتلالِ الصهيونيّ. يعدّ هذا الهجوم الأكثر قوّة، وتأثيراً، وشراسةً في تاريخِ المقاومةِ الفلسطينيّة للمحتلّ الإسرائيليّ. بين ليلةٍ وضحاها، انقسم العالم إلى نصفين، واسقطت الأقنعة مِن على وجوهِ الإمبرياليّين، وظهرَ نفاقهم على الملأ في العالم كُلّه. فلم يحاولوا أن يجتهدوا في ابتداعِ مبرّر أخلاقيّ، أو منظورٍ سياسيّ، لمساندة دعمهم الأعمى لإبادةِ الشعب الفلسطينيّ. وظهرَ الفلسطينيّونَ كشعبٍ لا يقبل أن يُباد مِن دونِ مقاومة.

كُلّ هجومٍ فلسطينيّ على ”إسرائيلَ“ هو – في حقيقةِ الأمر – تعبيرٌ عن حربٍ دفاعيّة، وهو -بالتالي- مشروع، وكُلّ ”دفاعٍ“ (بمعنى ردّة الفعل) إسرائيليّ هو – في حقيقة الأمر – حربٌ عدائيّة. بكلماتٍ أخرى، إنّ طبيعةَ الاستراتيجيّة التكتيكيّة لا تُغيّر طبيعة الحرب نفسها. فحقيقة أنّ حنبعلَ اعتدى على روما، أي تبنّى تكتيكاً هجوميّاً، لا يعني أنّ حربه كانت حرباً عدائيّة، وحقيقة أنّ فابيوس ماكسيموس تبنّى تكتيكاً دفاعيّاً لا يعني أنّ روما قادت حرباً دفاعيّة ضد قرطاج. لذا الموقف التآلفيّ مِن القضيّة الفلسطينيّة هو: مِن حقّ الفلسطينيّينَ أن يُدافعوا عن أنفسهم بأيّةِ وسيلةٍ ممّكنة. تقومُ الصهيونيّة، كما بيّن هرتزل، على مبدأ واحد: حربٌ مفتوحةٌ دائماً على الشعب الفلسطينيّ، وبالتالي لا يُمكن أن تقودَ إسرائيلُ حرباً دفاعيّة أبداً، وإنّما وجودها – بحدّ ذاته – هو هو حربٌ عدائيّة.

بالتالي، حين يطالبُ الغربُ بإدانةِ حماس، مثلاً، فإنّه يقوم بذلكَ كخدعة شبيهةٍ بلغز أبي الهول، وعلينا أن لا نُخضع لمنطقِ الخدعة التي يدعوا إليها الإمبرياليّون. فلا يُمكن لأحدٍ أن يُدين أيّ طرفٍ فلسطينيّ، إذ حربهم حربٌ دفاعيّة؛ مَن لا يقرّ بذلكَ لا يفهمُ شيئاً مِن الحاصل. ولمّا قلنا إنّ للفلسطينيّينَ حقّاً في الدفاع عن أنفسهم، فإنّنا نعني أنّنا نؤمنُ أنّ لكُلّ طرفٍ تأييداً عسكريّاً في حدود الدفاعِ الذاتيّ الفلسطينيّ فقط. لكن ذهبَ بعض النكوصيّينَ في إعطاءِ التأييدِ السياسيّ المطلق لكُلّ الحركات المقاومةِ لإسرائيل. فمِن ناحية التأييد العسكريّ لم يخطأ النكوصيّون، وأمّا مِن ناحيةِ التأييد السياسيّ فهم مخطئونَ تماماً. سأضرب مثالاً على خطورةِ هذا الخطأ: في الجبهةِ الشماليّة، أي شمال فلسطين المحتلّة وجنوب لبنان، يقود حزب الله مقاومةً ضد الإسرائيليّين، وبالتالي التأييد العسكريّ ضروريّ في هذه الحالة. لكن أيعني ذلكَ دعماً سياسيّاً وآيديولوجيّاً له كذلك؟ لنتخيّل أنّ انتفاضةً ستشتعل في لبنان (كانتفاضةِ تشرين 2019) في المستقبل، ووقف حزب الله في وجهها كما قامَ في الماضي، ماذا ستصنعونَ مِن هذا الدعم السياسيّ والآيديولوجيّ؟ إنّ الدعم السياسيّ والآيديولوجيّ هما دائماً مطلقان، في حين الدعم العسكريّ والدعم التحالفيّ هما دائماً شَرطيّان.

          ظلّ قادة القسّام ينادونَ الفصائلَ المقاومةَ الأخرى لمشاركتها، في الثامن مِن أكتوبر تحديداً، مِن دونِ أن يؤدّي ذلكَ إلى النتيجةِ المرجوّة؛ رغم مشاركة حركة الجهاد الإسلاميّ، وكتائب شهداء الأقصى، والجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين في غزّة، ومشاركة حزب الله في جنوب لبنان. كما هدّد رئيس منظمةِ بدر في العراق، في التاسع مِن أكتوبر، الولايات المتحدّة الأمريكيّة بالهجومِ على قوّاتها إن تدخّلت في الشأنِ الفلسطينيّ؛ وشاركت هذا التهديد كتائب سيّد الشهداء، وجماعة أصحاب الكهف، وعصائب أهل الحقّ، وكتائب حزب الله. كذلكَ قامت قوّات نسور الزوبعة السوريّة بتقديمِ دعمها للمقاومةِ الفلسطينيّةِ في التاسع مِن أكتوبر. لكن كان الردّ الإيرانيّ هو المحسوب، والمنتظر عمليّاً، بدلاً مِن تلكَ المنظّماتِ التابعةِ لها (التي لم تكن ستقوم بكُلّ ذلكَ مِن دون مباركتها)، ولكن اكتفى الإيرانيّونَ بتقديمِ الدعم الدبلوماسيّ للمقاومةِ وبنفي تدخّلهم في هجمةِ السابع مِن أكتوبر، إذ قالَ علي شمخاني (المستشار السياسيّ لآيةِ الله علي خامنئي): “إنّ القراراتِ التي اتّخذتها المقاومةُ الفلسطينيّةُ مستقلةٌ بالكامل (…) نحن نقفُ بشكلٍ قاطع في دعمنا الثابت لفلسطين؛ ولكننا لا نشارك في الرد الفلسطينيّ”.

          في الضفّةِ الغربيّة قادت مجموعات (عرين الأسود) مَن استطاعت تحريكهم للتظاهر، واشتبكوا بالقوّاتِ المحتلّة في رام الله، ونابلس، والخليل. لكننا لم نرَ ائتلافاً، وتنسيقاً، موحّداً بينَ مجمل حركات ومنظمّات الضفّةِ الغربيّة وغزةَ في المقاومةِ العسكريّة والسياسيّة، والذي سبّب في عرقلةِ الهدف العسكريّ لحماس، إذ لتحقيق هذا الهدف العسكريّ مِن الضروريّ أن يتوفّرَ شرطان: الأوّل، الوحدة السياسيّة والعسكريّة لجميعِ الحركاتِ المقاومةِ الفلسطينيّة (ممّا يستدّعي مشاركة منظمة التحرير الفلسطينيّة على نحوٍ فعّال كذلك). الثاني، الظروف الإقليميّة العسكريّة والسياسيّة المساندة. لحدّ الآن، نحن نعلمُ أنّ إيرانَ أعلنت أنّها ستتدخّل في الحرب فقط في حال قامت إسرائيلُ بتوجيهِ ضربةٍ مباشرةٍ لطهران، وأنّها ستدعو المنظمّات الموالية لها ضرب قواعد الولايات المتّحدة الأمريكيّة في سوريا والعراق إن قامت الولايات المتّحدة بتجميدِ الأموال الإيرانيّة في الخارج. ونعلمُ أنّ حزبَ الله أعلن أنّه سيتدخّل في حال نفذّت إسرائيلُ الهجوم البريّ المرتقب داخل غزة. أمّا المنظمّات المذكورة الأخرى، في العراق واليمن، فإنّها أعلنت تدخّلها في حالِ تدخّل الولايات المتحدّة في الحرب. بعدَ أن قصفت إسرائيلُ موقعاً قرب المستشفى الأهليّ المعمدانيّ، والذي أدّى إلى تدميره، في 17 أكتوبر، والذي أنكرتهُ إسرائيل ومعها حلفاؤها الغربيّون، ازدادت وتيرةُ الاشتباكات بينَ الفلسطينيّينَ والإسرائيليّينَ في الضفّةِ الغربيّة؛ ممّا أيقظ آمال حماس وحزب الله في توحيدِ الحركةِ المقاومة بينَ غزّةَ والضفةِ والغربيّة، لكن لم يتحقّق ذلكَ بعد.

ولمّا لم تتوفّر تلكَ الظروف الضروريّة والملحّة بالسرعةِ المطلوبة، وحقيقة أنّها لم تتوفّر بهذه السرعة تعني أنّ ثمّةَ شكّاً في القدرةِ على التدخّل، بدأ زخم الهجوم الفلسطينيّ أن يتراجعَ بالنسبةِ إلى ما كان عليه في البداية، وأخذت الهجمات تأخذ شكلاً غير مباشر وعبر الدرونات، ولا ندري ما إذا كانت الأرقامُ الإسرائيليّة هي صحيحةٌ أو مضلّلة (كالعادة)، ولكنها تزعم بأنّ منظمّة حماس وحركة الجهاد الإسلاميّ فقدتا ما يقارب 33% مِن مدافعها الصاروخيّة في 13 أكتوبر. وكضربةٍ استباقيّة قام جيش الدفاع الإسرائيليّ بتوجيهِ ضرباتٍ جوّيّةٍ على مطاريّ دمشقَ وحلب، وبالتحديد مدرّجاتهما، ممّا دَفَعَ طائرة ماهان إلى العودةِ إلى إيران.

لم تعد إسرائيلُ مجرّد “كلبِ حراسةٍ” للإمبرياليّة كما كانت في السابق، أي راعية الثورة المضادة لحركة التّحرّر الوطنيّ في الشرق الأوسط، وإنّما هي اليوم أحد البلدان الكولونياليّة المهيّمنة إقليميّاً. في حين تسعى إيرانُ أن تكونَ مهيّمنةً إقليميّاً بدلاً مِن بقائها كمهيّمنةٍ محليّاً فحسب، وذلكَ بفعلِ طبيعة رأس المال الكولونياليّ الإيرانيّ نفسه. وبالتالي، مصلحة إسرائيل تكمن في الحفاظِ على مكانتها المهيّمنة إقليميّاً، في حين مصلحة إيران تكمن في الارتقاءِ لهذه المكانة في الشرق الأوسط والتنازع مع إسرائيل عليها، ولذا أنّها بحاجةٍ ماسة للسلاح النوويّ لتحقيقِ ذلك، في حين، تقف إسرائيل كالعائق الأساسيّ لإتمامِ هذه النقلة. ومعَ سلسلةِ التطبيع في العالم العربيّ، بدأت إسرائيلُ تهدّد طبيعة الهيّمنة المحليّة الإيرانيّة نفسها.  لهذا السبب، سيكون علينا أن لا نُسقط في الخطأ الذي يُسقط فيهِ المحلّلونَ والسياسيّونَ المتسّرعون، حيث يوازونَ بينَ مصالحَ حماس وإيران كما لو كانت مصلحةً متماثلة. فإنّ هدف حماس، مثلَ كُلّ حركةٍ فلسطينيّةٍ أخرى، هو تحرير فلسطين مِن الصهيونيّة، أي بناء دولةٍ قوميّةٍ للشعب الفلسطينيّ، (بغض النظر عن الشكل السياسيّ الذي تطمح حماس، بأوهامها البورجوازيّة الصغيرة، بتشييده). في حين، مصلحة إيرانَ في القضيّة الفلسطينيّة، أي مصلحتها الإستراتيجيّة، تختلفُ عن ذلك، إذ إنّ هدفها القصويّ هو إزالة إسرائيل كعائق عليها (عبر الإخضاع أو اتفاقيّة عظمى)، وهدفها الأدنويّ هو عرقلة كُلّ المحاولات التي ستعزّز بها إسرائيل قوّتها في الشرق الأوسط عبر التحالفِ مع البلدان الكولونياليّة العربيّة المهيّمنة. بالتالي، إذا تمكّنت إيرانُ مِن عرقلةِ أيّ انفتاحٍ دبلوماسيّ بينَ إسرائيل، مثلاً، والممّلكة العربيّة السعوديّة، فإنّها ستعتبر ذلكَ انتصاراً أدنويّاً، لأنّها – عبر ذلكَ – قد عطّلت شيئاً مِن وجودِ إسرائيل في الشرق الأوسط؛ ممّا يسمح لإيرانَ أن تبقى لاعباً مهمّاً في المنطقة. هذا يعني أنّ إقامةَ الدولة القوميّة للشعب الفلسطينيّ هي مِن مصلحة الإيرانيّينَ في حدودِ أن تحقّق إقامتها مصالحها المهيّمنة، ممّا يعني – كذلك – أنّه مِن الممكن تحقيقِ مصالح إيران في المنطقة مِن دونِ إقامةِ الدولة القوميّة هذه.

إنّ الهدف العسكريّ لمنظمةِ حماس هو أكثرُ تشوّشاً، لأنّه أكثر تجريداً واعتماداً على عواملَ خارجة عن مقدرتها التنظيميّة، مقارنةً بالهدفِ العسكريّ الإسرائيليّ، إذ وَضَعَ الإسرائيليّونَ لأنفسهم هدفاً عسكريّاً محدّداً: تجريد منظّمة حماس مِن السلاح وإضعافها. في حين، وضعت منظمة حماس هدفاً عاماً: القضاء على إسرائيلَ كُلّيّاً. لا شيء سيفسّر لنا تسرّع حماس، وتهوّرها، سوى اعتمادها على تدخّلٍ إقليميّ موحّد ضد إسرائيل، أي تدخّل سوريا، وجنوبِ لبنان، والحوثيّين، وقوّاتِ منظمّةِ بدر، وإيران. الآنَ لا ندري ما إذا قُدّمت الوعود لحماس مِن قبلِ هذه الأطراف أم لا، ولكنّها – بلا شك – اعتمدت على تدخّلها الفوريّ. بالتالي، كان الهدفُ العسكريّ هو توجيه ضربةٍ قوّيّةٍ لإسرائيلَ مِن شأنها أن تُشعلَ صراعاً إقليميّاً يضعها في زاويةٍ حرجة. لكن حساباتِ كُلّ هذه الأطراف، مهما اتهمت بالتبعيّة، تختلف عن بعضها الآخر، رغم أنّها متوافقة. فإنّ إمكانيّةَ دخول إيرانَ في مواجهةٍ مباشرةٍ هي موضوعةٌ تحت الاختبار حاليّاً، وبالتالي إمكانيّة دخول حزبِ الله في مواجهةٍ مباشرةٍ هي رهنُ تلكَ الإمكانيّة الأولى. بهذا المعنى، لتحقيقِ هدف حماس العسكريّ سيكون على ظروفٍ إقليميّةٍ معيّنةٍ أن تكونَ حاضرة، وحضورها هو في محلِ شكٍ في الوقت الراهن؛ لئلا نتسرّع ونقول إنّه مستحيل أو غير ممكن، كما يقوم بعض المحلّلين المتسرّعين.

ولأنّ حضور تلك العوامل والظروف هو في محلِ شكٍ في الوقتِ الراهن، سيُصعّب ذلكَ العمليّةَ العسكريّةَ التي قادتها حماس منذُ السابع مِن أكتوبر؛ وهذا أمرٌ لا ينتطح عليه عنزان، إذ أخذت حماس مواقعَ دفاعيّة أكثر وأكثر في الأيامِ الأخيرة. كما اعتمدت حماس وعوّلت على مشاركةِ الضفّة الغربيّة في الصراع، وهذا ما أكّدَ عليه إسماعيل هنيّة في كلمتهِ في التاسع مِن أكتوبر، إذ شدّد على ضرورةِ توسّع عمليّة طوفان الأقصى إلى القدس، والضفّة الغربيّة، وفلسطين المحتلّة؛ ولكن لحدّ الآن لم تتمكّن العمليّةُ مِن الاتّساعِ بالطريقة المرجوّة، وذلكَ لأنّ الهدفَ العسكريّ متمحور حولَ ظروفٍ خارجةٍ عن سيطرة حماس نفسها. وهذا لا ينطبقُ على الهدف القصويّ فحسب، أي تحرير فلسطين بأكملها كما أكّد هنيّة وكتائب القسّام، وإنّما على الهدف الأدنويّ كذلك، إذ لمّا كان هذا الهدفُ الأدنويّ يتمحور حولَ طردِ جيش الدفاع الإسرائيليّ (فرقة غزّة) مِن غزة، فإنّ لتحقيقِ هذا الهدف لا بدّ مِن تلاحمٍ عسكريّ حقيقيّ بينَ الضفةِ الغربيّة وغزة، ولم نرَ حدوث ذلكَ بعد. كما أنّ تحقيق هذا الهدف يعتمدُ على الوضعِ الداخليّ لإسرائيلَ المحتلّة، أي على التناقضات الداخليّة بينَ الطبقةِ المسيطرة والخاضعة، وبين أقسام الطبقة المسيطرة، وبين أجهزة الدولة نفسها والجيش، إلخ.

مقارنة بالوضعِ العسكريّ الإسرائيليّ، نجدُ أنّ للإسرائيليّينَ هدفاً عسكريّاً أدنويّاً وقصويّاً أكثر تحديداً واعتماداً على مقدراتهم الداخليّة، أي إمّا القضاء كُلّيّاً على حماس (أي نزع السلاح عنها كُلّيّاً) وإمّا إضعافها (أي نزع السلاح عنها جزئيّاً)، وظروف تحقيق هذا الهدف يعتمد على الجاهزيّة الأمنيّة والعسكريّة الإسرائيليّة في المقام الأوّل. لهذا السبب تحديداً ضَرَبَ جيش الدفاع الإسرائيليّ مواقعَ مختلفة في سوريا ولبنان على نحوٍ استباقيّ (كمطاريّ حلب ودمشق، ثلاث مرّات) لقطعِ إمدادات الأسلحة الضروريّة للمقاومةِ الفلسطينيّة، وذلكَ لكي يسهّلوا على أنفسهم تحقيقَ أهدافهم العسكريّة، مِن دونِ عقباتٍ حقيقيّة.

كما أنّ لتحقّقَ إسرائيلُ أهدافها العسكريّة فلا بدّ أن تمنع، بأيّ طريقةٍ ممكنة، توحيد المقاومة (بالكثافةِ عينها) بينَ غزّةَ والضفةِ الغربيّة، ولهذا السبب قامت باعتقالِ أكثر مِن أربعةِ مئةٍ فلسطينيّ في الضفّةِ الغربيّة. وظلّت حماس في الخطّ الصحيح في مناداتها لوحدةِ المقاومة بينها وبينَ الضفّةِ الغربيّة، لأنّه مِن الضروريّ أن تتشكّلَ هذه الوحدةُ آيديولوجيّاً وسياسيّاً في أسرع وقتٍ ممكن. وعلى الرغم مِن أنّنا نجدُ هجماتٍ مختلفة مِن كتائب (أبو علي مصطفى) التابعة للجبهةِ الشعبيّة لتحرير فلسطين، والجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين، والجهاد الإسلاميّ، وحماس، إلّا أنّ هذه الهجماتِ الصاروخيّة (وغيرها) ليست متناسقة وموحّدة كما هو المرجو مِنها أن تكون. ولحدّ الآن تتّبع حزب الله مبدأ إلهاء إسرائيل عن غزة، مِن دونِ فتح جبهةٍ أساسيّة في الجنوب.

يدّعي الإسرائيليّونَ أنّهم لم يجتاحوا غزّةَ بريّاً بعد لدواعٍ “إنسانيّة”، أي لأجلِ أن يتسنّى للغزّاويّينَ أن يُخلوا غزّة في أسرع وقتٍ ممكن، ولكنّنا نعلم أن هذا الإدّعاء باطلٌ ولا أساس له. ليس لأنّ الاحتلالَ الإسرائيليّ مارسَ، ويُمارس يومياً، أبشع أنواع الإبادة في حقّ الفلسطينيّينَ والغزّاويّينَ بالتحديد فحسب، بل لأنّ الاجتياح البرّيّ ينطوي على مخاطرَ عدّة ينبغي حسابها بالأوّل، وأهمّها: مخاطر سياسيّة وعسكريّة. لكي يتمّ الاجتياح لا بدّ مِن حساب ردّة فعل حزب الله، وسوريا، وإيران أوّلاً، وبالتالي سيكون على إسرائيلَ أن تعوّل على الوجود الأمريكيّ لمساندتها في ذلكَ كُلّه (وليس مهمّاً على أيّ هيئةِ يشارك الأمريكان في هذه الحرب). ثانياً، لكي يتمّ الاجتياح لا بدّ مِن التأكّد مِن استعداديّةِ جيش الدفاع الإسرائيليّ، إذ مِن أصلِ 600 ألف جندي، لا يشكّل مِنهم الجنود بدوامٍ كامل سوى ستة بالمئة. أمّا المجنّدونَ الإلزاميّونَ فإنّهم يشكّلونَ ما يقارب 140 ألف جنديّ، في حين الباقي يعدّونَ مِن القوّاتِ الاحتياطيّة. ثالثاً، على الإسرائيليّينَ حساب أعداد الضحايا في المخيّم الإسرائيليّ وتأثيرها على المكانةِ السياسيّةِ لنتينياهو وحزبه (هذا ما تعلمه الإسرائيليّونَ مِن درس 2014). لكنه مِن الواضحِ أنّ الإسرائيليّينَ سيرحّبونَ بهذه المخاطرة لأجلِ تحقيق أهدافهم العسكريّة بتدمير حماس بأيّ طريقةٍ ممكنة، وفي الوقت نفسه يريدونَ إخلاء غزّةَ مِن أجلِ الإستيلاءِ على أجزاء مِنها، وإن لم يكن أكثر مِن ذلكَ لولا الخلاف بينهم وبينَ المصريّينَ حولَ سيناء.

لم يمارس الإسرائيليّونَ إرهابهم بعد، والأيام القادمة ستشهد إرهاباً أسوأ، إذ الإرهاب هو دائماً سبّاق لاجتياحٍ قادم، والفرصة لتنفيذ هذا الاجتياح ما تزال حاضرة وقائمة، وإنّما تأخيرها هي التي تخفّض مِن معنويّاتِ الإسرائيليّين، إذ إنّ الاجتياحَ لن يكون لتحقيقِ عمليّةٍ عسكريّةٍ معيّنة، وإنّما لتحقيقِ هدفٍ إستراتيجيّ كامل، وبالتالي سيكون على الإسرائيليّينَ أن يكونوا مستعدينَ لصراعٍ طويل. لهذا السبب، الوسيلة الوحيدة أمام المقاومة الفلسطينيّة وحلفائها هي تأخير الاجتياح بأيّ ثمنٍ ممكن.

كثيرةٌ هي التحدّيات التي تؤخّر قرار جيش الدفاع الإسرائيليّ في اجتياحِ غزّة، ومِنها طبيعة معارك الكرّ والفرّ التي تقودها المقاومةُ الفلسطينيّة وعلى رأسها منظمة حماس، وما على المرءِ سوى أن يُقيس تلكَ التحدّيات بوضعِ الأنفاق التي بنتها حماس تحت الأرض. كما أنّ الرهائنَ ما يزالونَ يشكّلونَ تحدّيّاً بالنسبةِ إلى الإسرائيليّين، إذ أن إنقاذهم  قضيّةٌ سياسيّةٌ في المقام الأوّل. الأهمّ مِن ذلكَ هو المخاطرة بفتح جبهةٍ في الشمال، أي جنوب لبنان. إذا حقّق الإسرائيليّونَ هدفهم العسكريّ، فإنّ ذلكَ يترك مصير غزّةَ في حالةٍ هائمة: هل ستحاول إسرائيلُ تمديد السلطة الفلسطينيّة في غزّة؟ أو هل ستحاول، وهذا هو الخيار الأسوأ إستراتيجيّاً، أن تحتلَ غزّةَ بنفسها، وتعرّض نفسها لسلسلةٍ مِن معارك غير منتهية؟ وعلى الرغمِ مِن أنّ المقدرات العسكريّة الإسرائيليّةَ هي أعلى بكثير مِن حماس، إلّا أنّه سينبغي علينا أن لا نستهين بمقدرات حماس القتاليّة، خصوصاً في الكرّ والفرّ، وسيكون ذلكَ مصدراً للإزعاج بالنسبةِ إلى الإسرائيليّين؛ ما لم كانت رؤيةُ اليمين الإسرائيليّ ستتحقّق بالقضاء الكامل على المقاومةِ في غزّة، بالإضافةِ إلى تهجيرِ السكان الأصليّينَ إلى سيناء. في كُلّ الأحوال، الحلّ الحقيقيّ الوحيد بيد الإسرائيليّينَ هو الاجتياحُ البرّيّ لغزّة، وهو ضروريّ – بالنسبة لهم – مهما كانت المخاطر.

الأيّام القادمة ستبيّن سير العالم نحو تشكيلاتٍ جديدة، وكُلّ شيءٍ يُشير نحوَ الانحطاط العمرانيّ في العالمِ بأكمله. لن استبق الآنَ الأحداث واستبدل التحليل الموضوعيّ بالعاطفيّ، ولكنّني سأؤكّدُ أنّ الصهاينةَ لا يتعلّمونَ مِن التاريخ لأنّهم عالقونَ فيه. فالعالق في التاريخ لا يستطيع أن يتجاوزه أبداً، وتراه يكرّر الماضي في الحاضر مِن دونِ أن يعلمَ الفارق بينهما. وأنظروا كيف كانت التوراةُ بأكملها قائمةً على فكرةٍ واحدة: الارتحال، والهجرة، والعبور. نُفي آدمَ مِن الجنّة، وهاجر نوحٌ بفعلِ الطوفان، وهاجرَ إبراهيمُ مِن أور، ونُفي يوسفَ إلى مصر، وهاجر يعقوبُ إلى مصر، وهاجر موسى ببني إسرائيل مِن مصر. وبعدَ أسفار موسى، دارت جميع أسفار التناخ (التوراة، ونبيئيم، وكتوبيم) حولَ الحفاظ على الأرض مِن غضبٍ ربّانيّ؛ الغضبُ الذي ظَهَرَ منذ الملك داود، وسليمان، وانعكسَ على حكمِ رحبعام ويربعام. وحينَ عادا بهم عزرا ونحميا إلى يورشليم ثانيةً مِن بابل، اجتاح الأغريقُ والرومانُ يورشليم ويهودا، إلى أن فقد العبرانيّونَ أرضهم المقدّسة مرّةً أخرى، وانتهت الأسفار المقدّسة القديمة. ومثلَ العبرانيّينَ القدماء، لا يفكّر الإسرائيليّونَ اليوم إلّا بمنطقٍ واحد: الهجرة والتهجير. وأنظروا كيف كرّر التاريخُ نفسه اليوم في الأحداثِ الأخيرة، ومعَ ذلكَ لم يتعلّموا درساً حقيقيّاً مِن أسفارهم (مع أنّها الكتبُ التاريخيّة الوحيدة في حوزتهم)، ونسوا أنّ يورشليمهم لم تعد مقدّسة، إذ دنّسوها لتكون بابلَ عصرنا. يهجّرونَ ويستعبدونَ الفلسطينيّينَ بالأساليبِ ذاتها التي هجّر واستعبد بها الطغاةُ بني إسرائيل، وكأنّ بهم يقولونَ: “ذوقوا مرارةَ ما عاناهُ شعبنا على مدى قرونٍ مِن الزمان، وذوقوا مرارةَ العبوديّة، وحينَ يبلغ السيل الزبى، هاجروا إلى سيناءَ كما هاجر إليها آباؤنا، وضيعوا هناكَ أربعينَ عاماً، واختاروا لأنفسكم اسماً جديداً يحمل عارَ الهجرة، كما حملته اسامينا“.

لا، أنتم لا تمثّلونَ أسفاركم، ولا أنبيائكم، ولا اليهود أنفسهم، وإنّما أصبحتم مثل أخابَ عابد الأصنام الذي دنّسَ إسرائيلَ وأخذ يتّهم إيليا: ”أأنتَ هو مكدرُ إسرائيل؟“، وفلسطينُ – مثل إيليا – تُجيبكم:

لم أكدّر إسرائيل، بل أنتَ وبيت أبيكَ بترككم وصايا الربّ وبسيركَ وراء البَعليم“.