ملحمة ناظم حكمت في سجن بورصة
تجتذب “بورصة” في تركيا آلاف السياح سنوياً للاستمتاع بجوها اللطيف وينابيع المياه المعدنية التي تشتهر بها، والاسترخاء في حضن المناظر الطبيعية الخلابة علي سفح جبل “أولوداغ” وشلالات المياه الباردة التي تتدفق في غاباته. قلّة من هؤلاء السياح يدركون أن في تاريخ هذه المدينة الوادعة، سجن كبير خلف قضبانه، أبدع ناظم حكمت أجمل أعماله الأدبية علي الإطلاق: ملحمته الشعرية “مشاهد إنسانية من وطني”.
في حقيقة الأمر، فإن وقائع الأحداث الدرامية التي عاشها ناظم حكمت في عام ١٩٣٨، وما فعله بعدها في السجن، جديرة بأن نطلق عليها ملحمة إنسانية بالمعني الحرفي للكلمة، و بدون أي نوع من المبالغة أو التبجيل الزائف. فالظلم الذي تعرض له يفوق الوصف، كما أن شجاعته وإنسانيته في التعامل مع هذا الظلم ستلهم أجيالا عديدة من بعده.
كان الشاعر يعمل حينها في استدوديوهات شركة “إيبس” السينمائية في اسطنبول في وظائف متعددة، أهمها كتابة سيناريوهات الأفلام التي تنتجها الشركة. كان متزوجاً ويعيش حياة سعيدة مع أسرته في اسطنبول، ولم يكن علي صلة بأي نشاط حزبي معارض، خاصة بعد انقطاع صلاته التنظيمية مع الحزب الشيوعي التركي قبل عشر سنوات. في المقابل كان الوضع السياسي في تركيا والعالم آنذاك مشحوناً بالتوترات والاستقطابات الحادة بين اليمين واليسار، خاصة في ظل صعود موجة الفاشية في أوروبا بعد احتلال هتلر للنمسا، وانتصار الفاشية في الحرب الأهلية الإسبانية. كل ذلك دفع بجنرالات الجيش في تركيا، ذوي الميول اليمينية المتطرفة، نحو إبداء سلوك عدائي عنيف تجاه أي “مخاطر محتملة”.
في أنقرة، كانت الأكاديمية العسكرية مسرحا لصراع بين مجموعتين من الطلاب الدارسين فيها، أحدهما يمينية وفاشية التوجه، والثانية يسارية. في مطلع يناير ١٩٣٨ اقتحم الجنود ثكنات الطلبة واعتقلوا جميع أعضاء المجموعة اليسارية، ووجدوا بحوزتهم نسخاً من دواوين ناظم حكمت الشعرية (التي كانت تباع رسميا في الأسواق). سيتم إثر ذلك اعتقال ناظم حكمت فوراً، وستوجه له تهمة تشجيع الطلبة علي العصيان وقلب نظام الحكم. في ٢٩ مارس ١٩٣٨ ستصدر محكمة عسكرية الحكم ضده: السجن لمدة ١٥ سنة. بعدها بأسابيع سيتم اعتقال مجموعة أخرى من جنود الأسطول البحري، ليجدوا بحوزتهم أيضا نسخاً من دواوين ناظم حكمت الشعرية. وهكذا سيتم تلفيق تهمة إضافية له، هذه المرة بحجة تشجيع العصيان في صفوف أعضاء القوات المسلحة في الأسطول.
سيتعرض بعدها ناظم حكمت الي سلسلة مهينة من محاكم عسكرية صورية متنقلة بين أنقرة واسطنبول بل وحتي في بحر مرمرة (تم حبسه في مرحاض باخرة حربية لأكثر من إسبوعين)، الى أن تمّ إصدار الحكم بتاريخ ٢٩ اغسطس ١٩٣٨: السجن لعشرين سنة. سيتم دمج وتعديل الأحكام في القضيتين، لتصبح المحصلة النهائية التي علي ناظم أن يقضيها في السجن ٢٨ سنة. فشلت كافة محاولات الاستئناف. فالهدف كان القضاء علي ناظم حكمت بشخصه، وليس فقط علي أفكاره. شكّل ذلك صدمة نفسية مؤلمة له في البداية، وإحتاج لوقت حتي يتعافي من آثارها، ويواجه التحدي الكبير: كيف سيقضي تلك الفترة الطويلة (٢٨ سنة) خلف القضبان؟ سيدهشنا ناظم حكمت بكيفية إجابته علي هذا التحدي الصعب الذي وصفه رفيقه في السجن، الفنان التشكيلي “عابدين دينو” علي النحو التالي: “أن تكون في “الداخل”، فذلك لايعني فقط أنك محاط بالشرطة والأبواب الحديدية لسجن بورصة، بل هو أيضا ظاهرة “إنحباس” ذهني، لا يمكن التغلب عليها إلا بنضال يومي شاق”.
في أواخر ١٩٤٠ سينقل ناظم حكمت من أنقرة، الي سجن بورصة، الذي شبهه ناظم في إحدى رسائله ” بالطائرة الحجرية”، حيث تقع زنزاته في الطابق الثالث، في ذيل تلك الطائرة (هدم السجن في التسعينات، ومكانه حاليا ينتصب مبنى القضاء). علي الفور سيشرع بالقيام بأنشطة يومية يمكننا تلخيصها وفق منطق: علّم وتعلّم. أي كان المدرس والتلميذ في آن واحد. ما يثير الدهشة هو تنوّع الأنشطة التي شغل نفسه بها: في الصباح كان يعمل في رسم “البورتريهات” للمساجين، بالإضافة إلى شغفه بحرفة حياكة القمصان حيث كان ينسج أكثر من نوع من الأقمشة في القميص الواحد في نشاط “تجريبي” يحاكي ربما ما كان يسعي إليه في الحداثة الشعرية . ها هو يقول في إحدى رسائله: “نسجت قميصاً ناعماً جداً، نصفه من الحرير ونصفه الآخر من القطن. كل ذلك من إختراعي الخاص… لقد إخترعت حريراً ديمقراطياً! “. يعلق أحد رفاقه لاحقاً بقوله: “كل ناظم هنا، في هذه العبارة. إنه ينسج الحرير في السجن، بالشغف نفسه كما ينظم الشعر”.
في المساء كان يعلم رفاقه مبادئ الاقتصاد السياسي، وفي الليل يجلس للكتابة (ترجم في السجن رواية الحرب والسلام لتولستوي). كل هذا النشاط تمّ في خضم علاقات إنسانية واسعة نسجها ناظم مع المئات من المساجين. من هذه العلاقات نحت ناظم لاحقاً شخصيات أعماله الأدبية وخاصة ملحمة “مشاهد إنسانية من وطني”. إذا كانت السلطات قد منعته من شعبه، فإن ممثلي مختلف كادحي الأناضول قد تدفقوا اليه في هيئة مساجين. ليس من المستغرب أن تقول كاتبة سيرة حياته “موتلك بليزنغ” بأن “ناظم حكمت الذي نعرفه تشكّل في سجن بورصة”.
يقول في إحدى رسائله إلى صديقه الروائي كمال طاهر: “إني أبحث عن وسيلة للتعبير عن الواقع بشكل أرقى، وأكثر صحة، وأكثر جدارة بهذا الواقع … أنوي أن أكتب قصيدة فلسفية طويلة…. يا كمال يجب أن نكتب أجمل قصائدنا، أجمل حكاياتنا .. سنقول للشعب التركي أجمل الأشياء التي نملك أن نقولها له” في رسالة أخرى يقول: “بالرغم من عذاب يعصف في أعماقي، أرى الحياة جميلة… أحمل إبتسامة الذي يعرف بأنه الضاحك الأخير.” كل هذا التفاؤل وحب الحياة سيترجمه ناظم في نشاط دؤوب لكتابة عمله الملحمي “مشاهد إنسانية من وطني”.
علاقتي بهذا العمل ترجع إلى عشر سنوات مضت، وأدين بها الي إحدى مصادفات السفر السعيدة والنادرة. فأثناء توقفي في رحلة ترانزيت بمطار اسطنبول استغرقت عشر ساعات، لفت نظري كتاب علي غلافه صورة ناظم حكمت واقفاً في باحة السجن وخلفه جنديان. كانت لقطة فوتوغرافية مذهلة، فعيون ناظم تنظر مباشرة إلى الكاميرا، أي كانت تنظر إلى كل من سيلمح الكتاب. شدّني العنوان “مشاهد انسانية من وطني” بترجمة انجليزية من “راندي بليزنغ” و”موتلو كونوك”. اقتنيت الكتاب فوراً، ولا أتذكر بعدها كيف مضت العشر ساعات، بعد أن خطفتني صفحاته.
سيرتبك ويندهش أي قارئ لهذه الملحمة منذ السطور الأولى، فما سيقرأه لن يشابه أي شئ قرأه سابقا. “الذي أكتبه حاليا ليس كتاب شعر. نعم فيه عنصر شعري، ولكن يوجد فيه أيضاً بالمقدار نفسه نثر ومسرح وحتي سيناريو”. هكذا يشرح ناظم عمله، ويضيف لاحقا: “إقرأها ببساطة شديد كما لو كنت تقرأ نثراً”. ناظم حكمت يوزع الكلمات على الصفحة بصورة تجبر القارئ علي الإبطاء، أو الإسراع في قراءة النص، مثل عدسة الكاميرا السينمائية. اسلوبه قصيدة نثر بصرية، كأننا نقرأ سيناريو مشاهد سينمائية. من هنا ننبهر بجمالية النص وغرائبية تركيبه. في هذا العمل سيذهب ناظم إلى الحدود القصوى في حداثته الشعرية: دمج الأجناس الأدبية في توليفة أوركسترالية: شعر، نثر، رواية، قصيدة، سيناريو سينمائي.
ملحمة “مشاهد إنسانية من وطني” مكونة من خمسة كتب، كل واحد يتبع سياقاً مختلفاً عن الآخر. في الكتاب الأول نتتبع مسار قطار ينطلق في رحلة من محطة “حيدر باشا” في اسطنبول متجها إلى أنقرة. المسافرين في عربة الدرجة الثالثة غالبيتهم من المساجين الذين يتم ترحيلهم الي أحد السجون. يسرد ناظم حكمت برهافة شاعرية، وعين سينمائية، تفاصيل رحلة القطار البطيئة ومشاعر وأفكار وحوارات المساجين خلالها.
الكتاب الثاني ينظر إلى عين الرحلة ذاتها من منظور مسافري الدرجة الفاخرة، الذين يمثلون أثرياء وأعيان المجتمع التركي. يبدو أن ناظم حكمت كان يسعى إلى تصوير حداثة المجتمع التركي في النصف الأول من القرن العشرين عبر الاستعانة بمجاز السفر في عربات القطار.
أحداث الكتاب الثالث تجري في السجن والمستشفي، بينما يركز الكتاب الرابع على وصف معاناة الفلاحين واستغلالهم من قبل الاقطاعيين والدولة. الكتاب الخامس هو الأقصر من ناحية الصفحات ويتضمن مشاهد عن الفقر والأسى في اسطنبول.
خصائص المكان الذي تتواجد فيه الشخصيات ستحدد اسلوب السرد الروائي، ففي حين ستبدو المشاهد خاطفة وانسيابية في رحلة القطار ،سنجد في الكتاب الثالث تركيز علي تشخيص الحالات النفسية للمساجين والمرضي وسعيهم للتأقلم مع وضعهم.
استغرق ناظم حوالي خمس سنوات في كتابة هذه الملحمة، وكان يبعث بفصولها الي صديقه “كمال طاهر” و زوجته “بيرايه” التي كانت تتغزل فيه بقولها: “أنت عذب كسهل بورصة حيث ينبت كل شئ بسهولة، فأنت تستطيع أن تكتب كثيرا بعناء قليل”. ربما يكمن السر في حسّ التفاؤل الدائم الذي يتميز به: “عليّ أن أعيش أيامي على الأمل، لا على سماع الأخبار! “كما كتب في أحد مقاطع ملحمته. هذا التفاؤل كان يغذي صموده. في قصيدة له عن جبل ” أولوداغ” يقول فيها:
“حدّقتُ في أولوداغ وجها لوجه لمدة سبع سنوات
كلانا لم يتحرك من مكانه!”
سيطلق سراح ناظم حكمت في 1950 بعد أكثر من إثني عشر سنة قضاها خلف القضبان، طبق خلالها ما سبق وأن قاله في إحدى قصائده في ١٩٤٨: “ليس المهم أن يعتقلوك.. الأهم أن لا تستسلم!” .