تجربة العمل السياسي في ولايات كيرلا والبنغال الغربية وتري بورا

0
19

فيما يتجه الوعي العالمي إلى تفضيل اقتصاد السوق

 الشيوعيون الهنود يعيدون بناء أنفسهم

 في عام 1957 استطاع الحزب الشيوعي الهندي الفوز بأغلبية الأصوات في ولاية كيرلا لتصبح أول ولاية يحكمها الشيوعيون في الهند، وأصبح حاكمها الشيوعي (V.S. Achutthanandan) الذي بلغ عمره اليوم 100 عام ولايزال عضوا حزبياً. إن طريق الشيوعين في الهند طريق مغاير لكل الأحزاب الشيوعية في العالم وقد نجح الحزب في تطبيق تكتيكاته السياسية خلال العقود الماضية في ظل الديمقراطية الهندية وتداول السلطة مع الأحزاب اليمينية. ولم تأتِ هذه التكتيكات والعمل الحزبي الدؤوب بالسهولة التي يتصورها البعض، بل بكثير من المعاناة وجهود مضنية في التحليل العلمي لتاريخ المجتمعات الهندية والقوى المتحكمة في حركتها وصراعاتها الطبقية بأشكالها المتعددة من أجل تطبيق أسس الاشتراكية فيها بدءا من تنظيم الجماهير لمقاومة الاستعمار ودكّ قبضة (المهراجات) حكام الهند السابقين والإقطاعين والكمبرادور والعملاء الذين ارتبطت مصالحهم بالوجود البريطاني، بالإضافة إلى محاربة الفروقات العرقية والدينية والاجتماعية وعلى رأسها قضية (الداليت أو المنبوذين).

 لقد بذل الحزب الشيوعي الهندي الكثير من التضحيات، وسجن كوادره وعذبوا ولوحقوا منذ سنة 1925 حين أسس الحزب تأثراً بالثورة الروسية وإلى أن انقسم الى حزبين هما (الشيوعي الهندي الماركسي) و(الشيوعي الهندي) بعد مؤتمر 1964 حين نشأت الخلافات بين أعضائه بسبب النزاع الصيني السوفيتي،  راضي أوتركز نفوذ الحزبين الرئيسي في 3 ولايات هي البنغال الغربية ( 103 ملايين نسمة) وكيرلا (35 مليون نسمة) وولاية تري بورا (4 ملايين نسمة) وحكم الحزبان ولاية غرب البنغال منذ سنة 1977 وحتى 2011 بعدها خسروا الأغلبية البرلمانية في تلك الولايات، والتي حكموها ضمن تحالف (جبهة اتحاد اليسار) – مع شركائهم الأحزاب الاشتراكية واليسارية في تلك الولايات.

كانت خسارتهم لأسباب رئيسية من بينها  قدم بنيان الحزب أيديولوجيا وإدارياً وتخلف الخطاب السياسي عن مطالب الجماهير وعدم فهم الحزب لبنيان واتجاهات اقتصاد السوق وكيفية إدارته بحيث لا يتعارض مع مصالح الطبقات الكادحة، كما أن الثغرات في عمل الحزب وقت أزمات مثل الفيضانات السنوية وخسائر الفلاحين واللاجئين وأزمة التوافق بين تشجيع الاستثمار الرأسمالي من جهة والعمل النقابي من جهة أخرى واستيعاب العمالة من الولايات المجاورة وحل أزمة البطالة وهجرة العمالة المحلية واخيرا الصدام مع انجذاب وعي الجماهير وخاصة الفئة المتعلمة منها (بعد سقوط الأنظمة الاشتراكية) نحو اختيار اقتصاد السوق والوفرة والملكية الفردية وتملك التكنولوجيا ووسائل الراحة التي خلقتها الرأسمالية  بالإضافة إلى تعطشها لوسائل التعبير الديمقراطية ومقتها للديكتاتوريات الفردية والجماعية والحزبية من أي اتجاه كانت. وبالنتيجة فإن الحزبين الشيوعيين كانا بحاجة إلى إحلال كوادر شابة وبرنامج سياسي اقتصادي حديث يفي بمتطلبات المرحلة وضرورات التغيير الإداري في بنية الحزب ولغة أدبياته وتربية أعضائه وتوعية جماهيره والقراءة الاقتصادية السياسية الصحيحة للأوضاع وتشجيع حريات النقد والتعبير في داخل الدوائر الحزبية.

اليوم يحكم الحزب الشيوعي الماركسي ولاية (كيرلا) بعد فوزه بالأغلبية في انتخابات 2021 وقد تقدّم كثيراً في كسبه لجماهير واسعة من الكادحين والفلاحين والعمالة المهاجرة ولمع في حل مشاكل الكورونا، وأنقذت ملايين الأرواح من خلال خطط صحية كانت الأفضل في الهند وضعتها وزيرة الصحة الشيوعية وتنتظر الحزب معركة انتخابية حاسمة السنة القادمة 2024 يتنافس فيها مع حزب المؤتمر، ويعمل الحزب بالتنسيق السياسي مع الأحزاب اليسارية في جبهة اتحاد اليسار.

 فقد نجح برنامج هذا التحالف ومن قبله برنامج الشيوعيين تاريخيا بدءا من مجابهتهم منذ قرن من الزمان للمستعمر البريطاني عسكريا وسياسيا ثم خاضوا التجارب في مراحل ما بعد الاستقلال فمرحلة استيعابهم لما جرى في العالم بعد سقوط المنظومة الاشتراكية الأوروبية ونتائجها السلبية من إخفاقات اقتصادية وسياسية وإدارية وأيديولوجية فعملوا لتطوير حزب من طراز حديث ومنظومة عصرية تسعى لبناء المجتمعات الاشتراكية بمفاهيم عصرية.

أما عمل الحزب بين صغار المزارعين وحمايتهم من القوى المتحكمة في السوق أو مافيا الأسواق كما يطلق عليها السكان المحليون فكانت له دلالاته في السنوات الأخيرة، لأن حكومة كيرلا بقيادة الشيوعيين قد حافظت على مستوى معيشة الفلاحين وحمتهم من الإفلاس حتى في أوقات الأزمات كالأمطار الغزيرة أو الفيضانات أو تدهور الأسعار او انتشار الاوبئة الفتاكة بالمحاصيل، وبذلك كسبت ثقة الفلاحين وحمتهم من الفاقة والإفلاس واليأس والانتحار كما هو منتشر في باقي الولايات. وقد أدخلت حكومة الحزب نظام البطاقات التموينية حيث يمكن للمعوزين أو الفلاحين المفلسين أو الفقراء وكبار السن الحصول على كل المواد التموينية الأساسية بأسعار رمزية. وتتفوق هذه الحكومة الشيوعية على غيرها في الولايات  الهندية الأخرى في الشفافية  وتوسيع دور النقابات وتكوين المجالس البلدية الشعبية في جميع القرى من أجل مراقبة ومشاركة الحكومة في إنشاء البنية التحتية ورصف الشوارع وخفض قيمة الوقود وإنشاء المدارس وتحديث المناهج وتكنولوجيا التعليم وتحسين الخدمات الصحية في القرى بالإضافة إلى توفير فرص العمل للشباب وسن قوانين حماية المرأة وحقوقها في التملك والإرث وتقرير مصيرها وإصدار قوانين العناية بذوي الهمم وإنشاء دور العناية بكبار السن كما أنها كوّنت على مدار السنوات نظاماً أمنياً قوياً يحمي المجتمع ومنظومة  قضائية مستقلة تلاحق المفسدين وتخفض من وقع البيروقراطية الحكومية. كما أن الحكومات الشيوعية المتتالية قد حلت مشكلة المياه والسدود فهناك مناطق جافة تحتاج إلى المياه كما هو الحال بالنسبة للمناطق المجاورة لولاية تاميل نادو ومناطق أخرى تفيض فيها المياه كما هي المناطق المجاورة للأنهار.                                

وفي انتظار الانتخابات القادمة فإن الأحزاب اليمينية مثل V.J.P. حزب رئيس الوزراء اليميني المتطرف وحزب يمين الوسط (كونغرس) تلعب على أوتار البحث عن ما يبعد الجماهير عن الشيوعيين، فتارة يلوث اسمهم بالدعايات الدينية وأخرى بتهم الفساد وأخرى بتوطين العمالة من الولايات الأخرى الأفقر ويُتهم الشيوعيون  بمصادرة الأراضي من الأغنياء وتركها تبور وتتآكل وأخيراً يُتهمون  بمحاربة الاستثمار واقتصاد السوق والقيم الفردية  بقيم الشيوعية القديمة.

ومن بين هذه الإشاعات والأكاذيب لإرهاب الناس وغسل أدمغتهم وإبعادهم عن التصويت للشيوعيين:

  1. محاولة تدمير الثقة بالحزب في مسألة ورود آلاف الأيدي العاملة المهنية الفقيرة من الولايات المجاورة وخاصة البنغال الهندي للعمل في كير الله، إثر ترك الجيل الجديد (المتعلم) للعمل اليدوي كالعمل في الأراضي الزراعية والمهن الأساسية كالإنشاء والكهرباء والمواصلات والنسيج والخدمات الأخرى وتفضيلهم للعمل في شركات إنتاج وبرمجة الكمبيوتر والبنوك والمبيعات في داخل الهند وخارجها، وتصوير المشكلة وكأن الحزب يريد توطين العمالة الواردة بدل السكان.
  • إن العمالة الواردة بالآلاف من البنغال الهندي إلى كيرلا  قد خلقت مظاهر ثقافية ومعيشية جديدة وتكاد تكون مشابهة لما يحدث في دول الخليج، فقد اكتظت وسائل المواصلات وزاد الضغط على حكومة الولاية في الاحتفاظ بمزايا التعليم والصحة وأسعار الوقود التي يتم دعمها من الحكومة كما أن الأحياء والمدن قد اكتظت بالسكان والمهاجرين وبرزت ثقافة ولغة البنغال في الجرائد والإذاعة والتلفزيون ضمن قنوات خاصة مما أدى  بالأهالي للشعور بالغربة وأصبحت هذه الظاهرة سلاح لإعلام المعارضة بأن كيرلا سيسيطر عليها البنغاليون ويطردون سكانها الأصليون.
  • استغلال التضامن النقابي الذي يدعو إليه الشيوعيون بين عمال كيرلا وعمال البنغال المهاجرين إليها بالإضافة إلى قوانين تفكيك الإقطاع وتوزيع الأراضي ومراقبة أصحاب شركات الإنشاء ومافيا أسواق السمك واللحم والمحاصيل الزراعية المدعومة من عصابات الأحزاب اليمينية وحزب الكونغرس (المؤتمر) – استغلت هذه المكتسبات الشعبية ليحوّلها الإعلام المضاد للحزب إلى إشاعات تفضيل الحزب الشيوعي للعمالة الأجنبية ودعم سيطرتها على الاسواق والعمل في المزارع والمنشآت بدل مواطني كيرلا.
  • محاولة استغلال القيم الدينية في تفكيك الحزب وإبعاده عن جماهيره من خلال تشويه قيم الشيوعيين الاجتماعية ونظرتهم إلى الأديان، ولكون أغلبية أعضاء الحزب وجماهيره من المؤمنين بالهندوسية والأديان السماوية ومن بينها الإسلام مستغلة تصريح بعض المسؤولين في الحزب بأن المرأة الهندية وجب أن تحترم أكثر، وأن المعابد الهندوسية وجب ان تسمح للمرأة بزيارتها وأن الكنيسة وجب أن تساوي بين المرأة والرجل في مراتب القسيسين – تصريح جوبه بأمر بعض رجال الدين الهندوس الناس بالابتعاد عن الحزب الشيوعي (بعذر أنه يدمر القيم الهندوسية وينكر وجود الآلهة) وأن يتوجهوا للتصويت لأحزاب أخرى لكي يخرج الحزب من سدة الحكم.
  • وتركز الأحزاب اليمينية على مبدأ أن الحزب الشيوعي لا يريد لأهل كيرلا ومليبار أن يحسنوا من أحوالهم المعيشية، لذلك فهو يتبع مبادرات عدم تشجيع الاستثمار الاقتصادي وحماية اقتصاد السوق فهو يطلق أيادي النقابات في وجه الاستثمار الأجنبي والمحلي لكي يبقي على أهل كيرلا فقراء مثل سكان كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا والمنظومة الاشتراكية سابقا ً- و قد أصبحت هذه الدعاية من التحديات الكبيرة لبرنامج الحزب، فمن الدروس التي تعلمها الحزب عبر تاريخه هو أن الجماهير تتوجه إلى مصالحها الآنية حين تصطدم تلك المصالح الآنية بأيديولوجية الحزب، لذلك فالحزب مضغوط من هذه الزاوية ويحاول بكل جهده إيجاد الحلول الاقتصادية المناسبة ومن بينها التوجه على مراحل نحو (اقتصاد السوق والرأسمالية الرحيمة) لكي لا يخسر جماهيره ويظل مدافعاً عن مصالح الكادحين والمزارعين والطبقات الوسطى المتضامنة معه.

إن الشيوعيون الهنود على أعتاب تسجيل تجارب جديدة، وستفيد أحزاب الكادحين في العالم وبخاصة العالم الثالث. إنها تجارب الجمع بين تكوين الأحزاب الشيوعية العصرية وتحقيق المزيد من المكتسبات للكادحين.