مدينة فقيرة صغيرة تقاوم

0
23

منذ زمن طويل أخبرنا محمود درويش أن غزة لا تتقن الخطابة، وليس لها حنجرة، “مسام جلدها هي التي تتكلم عرقًا ودمًا وحرائق. من هنا يكرهها العدوّ حتى القتل. ويخافها حتى الجريمة. ويسعى إلى إغراقها في البحر أو في الصحراء أو في الدم”. كان هذا في كتابه “يوميات الحزن العادي” الصادر في طبعته الأولى عن مركز الأبحاث الفلسطيني سنة 1973م. واليوم بعد خمسين عامًا ما زالت غزة هي غزة؛ عنوان الصمود الإنساني في وجه الجبروت والطغيان، والدرس المجاني البليغ للصمود، الذي لا يبدو أن أحدًا يود الاستفادة منه! عنقاء المدن العالمية التي تولد من الرماد كل مرة، ورمز التحدي لقوة البطش الغاشمة. ألم يردد الشهيد ياسر عرفات رحمه الله غير مرة في تحديه للتهديدات الإسرائيلية والإملاءات الأمريكية: “اللي مش عاجبه، يشرب من بحر غزة”!

أي قوة يمتلكها أهل غزة! من أين لهم هذا الثبات في وجه الموت والدمار وفقدان الأحبة! وأنا هنا لا أتحدث عن الحرب الحالية فقط، على بشاعتها، بل عن اعتداءات إسرائيل العديدة التي لم تتوقف منذ سنين. على سبيل المثال تكتب الكاتبة الفلسطينية سما حسن في إحدى يوميات العدوان على غزة عام 2014 (نشرتها في كتاب “ضحك ولعب، دموع وحرب”) ما يمكن سحبه على عدوان اليوم أيضًا: “في غزة أحسد كل من يموت مرة واحدة، لأن الأحياء يموتون كل لحظة من هول ما يرون ويسمعون ويشعرون ويعيشون. لو عشتم تلك اللحظات الفاصلة بين مغادرة غرفة النوم، وفتح باب الشقة، ونزول الدرج (22 درجة) والوصول إلى بيت الدرج، لعلمتم أن تلك اللحظات هي الموت. الموت الذي لا يأتي ولكنه يمد لسانه في وجهك، وكأنه يقول لك: إلى موعد آخر! أو ما زال أمامي وأمامك فسحة أخرى للعبث!”.

كيف أقنعت غزة أهلها بالبقاء فيها كل هذه السنين وهي خارج الحياة تقريبا! كيف صار الغزّاويون التطبيق العمليّ لمقولة: “لا تسأل ماذا يمكن لوطنك أن يفعل لك. بل اسأل نفسك ماذا يمكن أن تفعله لوطنك”! من مفارقات الحياة الساخرة أن يكون قائل هذه العبارة هو رئيس الدولة التي لَطالما كانت معاناة أهل غزة، بل وأهل فلسطين كلهم، بإشرافها ورعايتها، وقتلهم والتنكيل بهم بأسلحتها. إنه جون كينيدي، الذي يردّ عليه أمين معلوف في كتابه “التائهون”: “من السهل قول ذلك حين يكون المرء مليارديرًا، وقد انتُخِب للتو، في الثالثة والأربعين من العمر، رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية! أما حين لا تستطيع في بلدك إيجاد وظيفة، ولا تلقّي الرعاية الصحية، ولا إيجاد المسكن، ولا الاستفادة من التعليم، ولا الانتخاب بحرية، ولا التعبير عن الرأي، بل ولا حتى السير في الشوارع على هواك، فما قيمة قول جون كينيدي؟ لا شيء يُذكر!”. ورغم أن ما ذكره معلوف هو من أساسيات الحياة في أي مكان في العالم، إلا أن أهل غزة آمنوا أنها لن تأتي بترك بلادهم، بل بالمقاومة والصبر والثبات على المبدأ، حتى وإن استمر ذلك سنين طويلة، ولذا، فإن أهل غزة اليوم أكثر حرية منا، ومن أمين معلوف نفسه؛ المثقف الكبير الذي لم نسمع له صوتًا واضحًا في إدانة ما يتعرضون له من إبادة جماعية.

يقول درويش إننا نظلم غزة حين نحولها إلى أسطورة، “لأننا سنكرهها حين نكتشف أنها ليست أكثر من مدينة فقيرة صغيرة تقاوم”، ولكن ليعذرني شاعرنا الكبير، إن هذه الصفات الثلاث (فقيرة، صغيرة، تقاوم) هي بالذات ما خلق منها أسطورة. وها هي اليوم أيقونة المقاومة ومجابهة الظلم لدى شعوب العالم، بما في ذلك شعوب الدول التي يدعم ساستها إسرائيل ويوفرون الغطاء العسكري والمالي والأخلاقي لجرائمها. ولا أشك مطلقًا أنها سائرة في طريق تحقيق استشراف المفكر الأمريكي نورمن فنكلستين في كتابه “غزة: بحثٌ في استشهادها” عندما قال إنه في صميم الرأي العام الجماهيري المتعاطف “ثمة حركة تضامن دولية مستعدة وراغبة وقادرة عندما تحين اللحظة أن تعطي غزة كل ما لديها”، وإنه في حال تمت تعبئة أهل غزة، من جهة، والرأي العام العالمي من جهة أخرى، وتم تحفيزه وتنظيمه (وهو ما نراه قد بدأ في التحقق اليوم)، “وإذا كان ثمة قضية تسترشد بالحقيقة، وتتعزز بالقانون، وتتغذى بالفضيلة، وتنحو نحو العدالة، فبوسعها أن تُطلق، كما يبيّن التاريخ، قوة أخلاقية لا يمكن مقاومتها لهزيمة قوة متوحشة ونزع سلاحها وتثبيطها؛ فحينها قد تحدث معجزة صغيرة: سيتمكن شعب غزة على الأقل، وأخيرًا، من التنفس من جديد، وسيتمكن في نهاية المطاف إذا حافظ – وحافظنا جميعًا –  على الكفاح، من إنهاء الاحتلال”. وما ذلك على أهل غزة ببعيد.