أقل من (أضعف الايمان)

0
40

أعادتني الأحداث الدامية التي نمرّ بها الآن، ولم استخدم تعبير (يمرّ) بها أهل فلسطين، لأني ما زلتُ مع الذين يعتبرون فلسطين قضيتنا وكرامتنا جميعاً، وليس قضيتهم وحدهم، كما نراهم يواجهونها الآن لوحدهم وبشجاعة وصبر أذهلا العالم الغربي المزدوج المعايير، والعالم العربي الذي برع بصمته وقوّة تحمله على السكوت.

أحداث غزة أعادتني إلى الأعوام ١٩٧٨ إلى ١٩٨٢، إلى بيروت، التي قضيت سنوات هناك تحت حماية الفلسطينيين لنا، نحن الذين طردتنا بلداننا، وهددتنا بالاغتيال لأننا لم نتعلم درس الصمت وعدم الاعتراض، ولأن الاعتراض على الرأي ورصد الأخطاء صار سمة لازمتنا طوال حياتنا، ودفعنا جراء ذلك ثمنه غربتنا بعيداً عن الوطن، وعشنا ثلاثة ارباع حياتنا تحت تسمية غريب او مغترب أو لاجىء سياسي.

لا أحد منا ينسى كيف احتوتنا منظمة التحرير الفلسطينية بفصائلها العديدة آنذاك، ووفروا لنا الحماية والعمل معهم وبين صفوفهم، ودخلنا، رجالاً ونساء، في دورات عسكرية للتدريب على السلاح، لتحقيق حلم الكفاح المسلح مثل غيفارا وكاسترو، لكننا لسنا مثلهما ولم يتحقق حلمنا..

أتذكر آنذاك مقولة الزعيم ياسر عرفات الذي قال يوما: “إن منظمة التحرير الفلسطينية هي واحة لحركات التحرر العربية”. ومن عاش في بيروت تلك السنوات سيتذكر هذه العبارة التي رددها الكثيرون ولن ننساها وفاء للفلسطينيين الذين حموا ظهورنا من غدر حكّامنا.

تحت حماية الجناح الفلسطيني استمرت حياتنا التي كانت مهددة بكواتم الصوت من قبل الأنظمة التي غرّبتنا، والتي طاردتنا واغتالت في دروب وحواري بيروت الكثير من اصدقاء ورفاق نضالنا.

اليوم، وأنا أراقب بنفسٍ مخنوق وروح مكلومة أحداث غزة، وأشهد صعود الأرواح الفلسطينية إلى السماء التي ازدحمت بموتهم الجماعي، أشعر بالعار لأني في مكان آمن يمارس فيه الناس حياتهم بشكل اعتيادي، وكأن ما يحصل عبارة عن فيلم أجاد مخرجه في تصوير لقطات متنوعة  لأنواع مختلفة من الموت والقتل؛  سواء بالقصف الجوي، أو  بطائرات مسيرة، ورمياً من البحر، ثم هدّ العمارات على رؤوس ساكنيها، عدا عن بشاعة قطع الكهرباء والماء عن المستشفيات، ومنع وصول الامدادات والمعونات لسكان غزة، ونحن جميعاً نراقب هذه الأحداث من بيوت دافئة ونظيفة، ثلاجاتنا مليئة بالأكل،  وخدمة الإنترنت متوفرة أربع وعشرين ساعة.

بالتأكيد سيقول البعض: هل علينا أن نموت ونجوع مثلهم؟ لا.. ولكن لنكن معهم حقاً، كموقف مؤثر، وكشعوب عربية مجتمعة تفرض رأيها على العالم، ولو لمرة واحدة على الأقل، ليسجل التاريخ هذا الموقف، خير من أن نترك عار صمتنا للأجيال اللاحقة. ترى ألا يشعر الواحد منا بالذنب، وربما بالعار لاننا ننتمي الى (أمّة) قيل عنها خير أمة أخرجت للناس؟!. أي خير هذا ونحن مثل الأمم المتحدة التي تعلّمنا منها إصدار مواقف من قاعات مكيفة ومدفئة لنعرب عبر جمل ركيكة ومخزية ونقول فقط: “نعرب عن قلقنا”… اتركوا اللغة في حالها، لأنكم لا تجيدون لا الإعراب اللغوي ولا الإنساني.

ابنة المناضل تشي غيفارا أليدا، تتساءل في خطابها الداعم لفلسطين: “إننا نبعد عن فلسطين آلاف الأميال، لكني أستغرب وأتساءل، أين العرب الذين يحيطون بفلسطين من كل جانب  وهم على مقربة منها؟ اين موقفهم؟”. صحيح…أين نحن مما يحدث لأرض تُسلب وشعب يُباد  وكاميرات الإعلام تصوّر عن قرب لحظات الموت، وتدقق في أشلاء الذين تقطعوا تحت ركام العمارات والبيوت؟… أين نحن من كل هذا؟ حتى شعوب الغرب تظاهرت احتجاجاً أكثر منا!. إنه صمت القبور، والشعور بالعار، وخزي لا يمكن ان  يُمحي أثره عند أجيال وأجيال من الفلسطينيين.

ووسط هذا الصمت الرسمي العربي، أو المتواطىء مع العدو تحت برقع “الوساطة” والمهادنة خوفاً على كراسيهم، تظهر لنا أصوات تهزّ الغرب والعرب، هو الظهور المؤثر والمتمكن لحسام زملط، السفير الفلسطيني في بريطانيا، والإعلامي الفذ باسم يوسف، على شاشات اوروبية مخاطبين الغرب بلغته وبأسلوب متفرد ورائع ورصين، حيث حقق هذان الشخصان تأثيراً تضامنياً مع القضية الفلسطينية لم تحققه الدول العربية مجتمعة في قمتها التي لم تسفر إلا عن ألم أضافي للوجع الذي نعيشه الآن، بل وضعوا الملح على جراح فلسطين.

نحتاج اليوم بشدّة لأمثال زملط ويوسف وغيرهما، لأنهما طبقا القول: “من رأى منكم مُنكراً فليُغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه،  فإن لم يستطع، فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”، وهما أجادا في التأثير بلسانهما حيث غيّرا الكثير في الموقف العام الأوروبي، والذي تجسد في ضخامة المظاهرات التضامنية مع الشعب الفلسطيني، ولاحظنا تزايد عدد المظاهرات مرةً بعد أخرى، لأنهما شرحا، كل بأسلوبه الخاص، القضية بشكلها التاريخي، والمحنة الحالية ومسبباتها، بطريقة يستوعبها حتى الذي لا يعرف ماهية القضية الفلسطينية، وبالتأكيد كان للإعلام الشريف دور في نقل الجرائم التي ارتكبت بحق الأبرياء، بحجة القضاء على “حماس”، التي لم يتم القضاء عليها بل استشهد ويستشهد حتى الآن الآلاف من المدنيين.

ولم يُسلط الضوء حتى في الاجتماعات التي تعرب عن قلقها، على الهدف الكامن وراء هذه الحرب التي بدأت في ٧ اكتوبر، مثلاً ازاحة أهل غزة ليمرّ الطريق التجاري الذي سيغير الكثير وسيلغي الكثير، وستدفع بعض الدول الثمن غالياً بسببه، وستقبض بعض الدول ثمناً غالياُ بسببه أيضاً…عدا عن تكرار مأساة 1948، والتي بدأت عملياً، فعاد أهل غزة إلى الخيام ومازال العرب ينتظرون نتيجة المحادثات على حساب المقابر الجماعية والإبادة العرقية، ومساجدنا تصيح (الله  أكبر) لكن القتل مستمرأً والموت يتزايد والدفن صار بالجملة..وقد نكتب جميعنا اسمائنا على أيدي أطفالنا وأحفادنا، بينما الاحتلال يتمدد طولاً وعرضاً، والحكومات تنتظر نتائج المباحثات وما يفصّله الغرب لنا لنلبسه حتى لو كان ثوبا مهلهلاً ورثّاً مطرزا بهزيمة العرب وشجاعة الفلسطينيين.

إن ما يفعله اليوم بعض العرب هو أقل حتى من أضعف الإيمان، لأن بعض القلوب بدّلت دمائها وتغذّت شرايينها من الدم الفاسد.