عندما نلاحظ سلوك الغرب الكولونيالي بسياسته وساسته، ربما لا نستغرب كثيراً من وقوفه مع المحتل الصهيوني مهما ارتكب من قتل ومجازر وتوقيف أي شخص ينتقد هذا السلوك بحجة معادات السامية. ودعم هذا الغرب اللامحدود للإحتلال الصهيوني، والتغطية على جرائمه، إنما هو امتداد لتاريخه المظلم في احتلال الأراضي واستعباد الشعوب، هذا تاريخ الغرب الكولونيالي الذي يعترف هو به، ويبدو اعترافه بكل تلك الجرائم التي ارتكبها ضد شعوب العالم على مدى عقود من باب التكفير عن الذنب الذي ارتكبه آباؤهم وبداية عقد جديد يخلوا من تلك الجرئم السابقة. والحقيقة أن هذا كله خداع حتى وإن حاولوا الترويج لقيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان والعقد الإجتماعي.
من الواضح أن شعارات حقوق الإنسان سارية المفعول في حدود إطار شعوب الغرب -العِرق الأسمى! – وليس من حقّ الشعوب الأخرى أن تنعم بها، بل والظاهر أنه حتى شعوب الغرب نفسه بدأت تعاني التضييق والتهديد بل وحتى القمع إن وقف أحد فيها إلى جانب القضية الفلسطينية أو تعاطف معها، بريطانيا – على سبيل المثال لا الحصر- بلد “الديموقراطية العريقة” بدأت منذ الحرب على غزة تجرم رفع العلم الفلسطيني والكوفّية أو أي رمز فلسطيني في الأماكن العامة أو حتى على باب المنزل! وهذه فرنسا بلد الحريات تقمع المسيرات السلمية المؤيدة لفلسطين وتسمح لتلك المؤيدة لإسرائيل! ما السر ياترى في هذا الإختلال الأخلاقي والمنطقي؟!
الحرب على غزّة كشفت الكيفية التي يتم بها خداع الشعوب عبر محطاتٍ فضائية وإذاعية شهيرة كنا نعتمد عليها في نقل الأحداث والأخبار حول العالم، إذاعات عريقة مثل “بي بي سي” و”سي إن إن” و”فرانس 24″، و”مونتي كارلو” وغيرها كانت تمارس كذبها في الخفاء، انكشف زيف ادعائاتها وأصبحت تمارس الزيف والتلفيق على العلن دون اكتراث وحرص على تاريخها الإذاعي الطويل في نقل الخبر. دولٌ عظمى تخسر الكثير من ميزانيتها وإذاعات تخسر سمعتها وتاريخها كل ذلك من أجل إسرائيل! ترى ما السر؟!
أما منصّات التواصل الإجتماعي التي أوجدوها للسيطرة على عقول الناس كعادتهم في الإستعباد وإن بطرقٍ مستحدثة، والتي كنا نعتقد أن هذه المنصات وسيلتنا ونافذتنا للتعبير عن آرائنا وعن ما يختلج في أنفسنا بحرية، كانت هذه المنصات بحق صوت من لا صوت له، نفاجأ بها اليوم مع الأسف تخسر الملايين في سبيل التعتيم على الحقيقة وحرية الرأي الى درجة أنها تهدد بغلق الحسابات التي تقدّم محتوىً يدعم القضية الفلسطينية أو يتعاطف معها وينشر أخبارها وسرديتها، أدواتها التي كانت تتحكم بنا في الخفاء، ها هي اليوم تخرج أياديها الأخطبوطية إلى العلن لتتحكم في ما يجب أن نقول وما لا يجب أن ننشر، ولكنها مع ذلك تفقد السيطرة في كثيرٍ من الأحيان، إذ أن خوارزمياتها يمكن تجاوزها والتحايل عليها. لقد كسبت القضية الفلسطينية على مستوى وسائل التواصل بعد حرب ضروس مع نظم الحوسبة والخوارزميات، ولهذا الإنتصار في العالم الإفتراضي وقعٌ مدوٍ على العالم الواقعي عرف العالم الغربي من خلاله الكثير عن فلسطين وعن حقّها فشعوبهم اليوم تتظاهر وتملأ الساحات رغم كل شيء.
رغم كل شيء مرة أخرى، نعم رغم كل شيء، نرى العالم كله يتحرك ويتظاهر ويطالب بالحقّ الفلسطيني ويتعاطف بجدية مع أهل غزّة التي تتعرض للإبادة الجماعية فهذه شوارع نيويورك ولندن وباريس ومدن إندونيسيا وفنزويلا وغيرها الكثير تغصّ بالمتظاهرين والمطالبين وبشكل يومي بوقف العدوان. فالرسالة وبعد عناء ونضال طويل في المجال الواقعي والإفتراضي وصلت أخيراً للعالم كله والآن على الضمير وحده أن يحكم…
مع هذا الدعم والحراك الشعبي العفوي المستمر في الغرب دعماً للحق الفلسطيني، قلّما نجد مثقفيهم أو فنانيهم أو النخب المفكرة والداعمة للقضايا الإنسانية -إذا استثنينا أيرلندا- تتحرك أو تساهم في ذات الشأن الإنساني بينما يجب عليهم من موقع واجبهم ومسؤليتهم أن يتصدروا واجهة الحراك، بل على العكس قد نرى بعضهم يصدح بأصوات الكراهية والعنصرية. نشر المخرج الأمريكي “جيمس وود” مخرج الفيلم الشهير “أوبنهايمر” الذي عرض قبل عدّة شهور والذي جسد فيه الحياة الشخصية لمخترع القنبلة النووية، على منصة إكس (تويتر) فرحة أهل غزة بعملية 7 أكتوبر البطولية، ومن ثم كتب عدة تغريدات طالب فيها بسحق حركة حماس وغزّة بمن فيها، وعندما حاولت الإبلاغ عن هذه التغريدات عبر خاصية (spam) وعلقت في الرسالة بأن هذه الرسائل عنصرية وتحث على الكراهية، ردت عليّ إدارة المنصة برسالة ذكرت فيها بأنها لاترى ما يحثّ على الكراهية في مثل هذه التغريدات!
لا أظن أن هذا المخرج المثقف يعرف ما الذي دفع فصائل المقاومة الى القيام بعملية 7 أكتوبر البطولية، ما الذي يعانيه الفلسطينيون في غزّة والضفة وكامل فلسطين منذ أكثر من 75 عام من إبادة وتهجير ومجازر وفصل عنصري ناهيك عن الحصار الذي تتعرض له غزّة منذ أكثر من 17 عام، حتى فاقت تلك الجرائم كل فاشيةٍ مضت، هل كان المخرج المتحضر والمثقف قد سمع عن كل تلك الجرائم البشعة ليغرد بهذا الشكل، لا أظن أنه يعرف وإن كان يعرف بكل ذلك ويغرد بهذا الشكل فهو عنصري ومحرض على الكراهية والعنف مهما قدّم من أعمال سينمائية تستعطف الناس وإنسانيتهم شاءت منصت إكس أم أبت.
“حماس” والفصائل والأحزاب المقاوِمة ليست مجموعات إرهابية كما يدعي الغرب، فهو منذ العصر الكولونيالي يصف كل حركات التحرر بأنها إرهابية لأنها تهدد أطماعه وسياساته الشنيعة التي تحاول أن تكبح حرية الشعوب واستقلالها، هذه الحركات والفصائل والأحزاب هي حركات تحرر وطني (National liberation movement ) تناضل ضد سطوة الإحتلال، فهي نشأت كرَدّ فعل ونتيجة للإحتلال. أرادت المقاومة من عملية طوفان الأقصى أن تقول لكل تجاوزات الإحتلال وجرائمه وأن تقول للعالم الداعم لهذا الكيان وبحزم وشجاعة: “لهون وبس..!”
عاشت ايدك
Comments are closed.