ليس «تفصيلاً ثانويّاً»

0
14

في الأحداث الكبرى عادة ما تضيع التفاصيل، هو قانون الطبيعة: السمكة الكبيرة تلتهم الصغيرة، غير أن بعضها عصيٌّ على الالتهام، يبرز كلطخة حبر سوداء في جدارية ضخمة، أو كنوتة ناشزة في سمفونية متقنة. وهذا ماحدث، خبر كان يمكن أن يمرّ عاديا عن تأجيل منح جائزة لكاتبة، أخطأ توقيتَه ومبرراته فكان أشبه بالطفل الذي قال للملك إنك عارٍ وفضح زيف الكبار.

أصل الحكاية أن روائية فلسطينية موهوبة  تقيم في برلين تدعى «عدنية شلبي» نشرت رواية (130 صفحة من القطع الصغير) سنة 2017 بعنوان «تفصيل ثانوي»، وحدث أن لفتت هذه الرواية الأنظار إليها ولاقت استحسان النقاد والقراء على السواء حين ترجمت إلى اللغة الإنجليزية  فاختارتها جريدة «نيويورك تايمز» ضمن كتبها المميزة لعام 2020، ودخلت القائمة القصيرة لجائزة الكتاب الوطني للأدب المترجم عام 2020، والقائمة الطويلة لجائزة البوكر الدولية عام 2021، والقائمة القصيرة لجائزة الأدب الدولية التي تمنحها دار ثقافات العالم في برلين عام 2022. لتتوج بجائزة ليبراتور «LiBeraturpreis» المخصصة لآداب إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية هذه السنة ووصفت الجهة المانحة الرواية بأنها «عمل فني مؤلف بدقة يحكي عن قوة الحدود وما تصنعه الصراعات العنيفة بالإنسان»، وكان من المفترض أن تستلم الروائية جائزتها في الدورة الخامسة والسبعين من  معرض فرانكفورت الدولي للكتاب. غير أن ما كان من المفروض أن يكون حدثا ثقافيا عاديا محصورا بين المهتمين بالرواية العربية وإنجازاتها تحوّل إلى خبر أسال حبرا كثيرا في الصحافة العربية والعالمية، وتدحرج بأقلام الموافقين والمعارضين ككرة ثلج، وسببه أن إدارة معرض فرنكفورت قررت إلغاء حفل تسليم الجائزة لأسباب لم تُقنع حتى أصحاب هذا القرار. فما الذي خبّأته هذه الرواية النحيلة في أثواب صفحاتها لتفتكّ الاعتراف المتواتر بقوّتها من جهة ثم تثير جدلا يشكك في مضمونها ويدينه من قبل المباركين خطوةَ معرض فرنكفورت، ولكن دون الاعتراض على قيمتها الفنية؟

تنطلق الرواية من خبر التقطته «عدنية شلبي» كشفت عنه شهادةٌ بصحيفة «هآريتس» عن ثمانية عشر جنديا إسرائيليا مع ضابطهم اغتصبوا فتاة بدوية في صحراء النقب ثم قتلوها بدم بارد في شهر أغسطس من سنة 1949 أي بعد سنة واحدة من النكبة. وحُكم على الجنود بعد الجريمة بسنتين بأقل من ثلاث سنوات سجنا بينما حكم على الضابط بخمس عشرة سنة قابلة للاستئناف. من هذا الخبر الذي يبدو «تفصيلا ثانويا» مقارنة بالفضائع التي حدثت بعده ولا تزال تحدث، بنَتْ الروائية الفلسطينية روايتها من قسمين. تدور أحداث القسم الأول في مكان وزمان وقوع الحادثة أي في صحراء النّقب يحكي لنا فيها الراوي العليم عن يوميات ضابط بلا اسم مع وحدة من الجنود مهمته تطهير منطقة جنوب النقب المتاخمة للحدود المصرية من البدو الذين يسكنونها مع إعطاء أوامر حاسمة بقتل كل من يضعه حظه العاثر في مرمى نيران هذه الوحدة العسكرية. وبلغة محايدة بضمير الغائب تتوالى الأوصاف الدقيقة المهتمة بأدنى التفاصيل ليوميات هذا الضابط ترصد خرجاته الاستطلاعية اليومية بل وطريقة استحمامه ولامبالاته بلسعة عنكبوت على رجله تلتهب وتتعفن وتتقيّح. وفي واحدة من الجولات الروتينية يسوق القدر عائلة بدوية إلى طريقه فيبيدها مع جِمالها كما تعوّد أن يبيد الحشرات بل حتى الفراشات في خيمته، ولا ينجو من رصاص جنوده سوى فتاة بدوية وكلبها – ويا ليتها ما نجت – حيث يسوقها إلى معسكره ويغسلها بخرطوم المياه بطريقة مهينة تحت أنظار جنوده وقهقهاتهم، وفي السهرة يضع جنوده أمام خيارين  «إما أن یرسلوا بالفتاة إلى المطبخ للعمل هناك، أو أن یعبثوا بها جمیعهم» وبالطبع فالنتيجة محسومة، وهل من خيار يملكه خروف ضعيف تحاصره مجموعة من الذئاب الجائعة المهتاجة. وتلاقي الفتاة مصيرها اغتصابا وقتلا لتستمر بعدها الحياة في مخيم الوحدة العسكرية ويستمر نزيز اللسعة في رجل الضابط قيحا وصديدا. 

وبعد نصف قرن بتمامه تبدأ أحداث القسم الثاني على لسان فتاة فلسطينية في الخامسة والعشرين من عمرها تعيش في رام الله تصرفاتها غريبة يشوبها القلق وبعض الاهتزاز النفسي، تقرأ في الصحف عن حادثة الفتاة البدوية ويلفتها تفصيل ثانوي وهو أنها وقعت في 13 أغسطس 1949 أي قبل خمس وعشرين سنة بالضبط من تاريخ ميلادها. فيتملّكها هوس معرفة الحقيقة كما حصلت لا كما رواها الصحفي في جريدته، فتبدأ رحلة محفوفة بالمخاطر لتصل إلى مسرح الجريمة في بلد مقسّم إلى مناطق يشار إليها بالأحرف الألفبائية، لا يسمح فيه لساكن المنطقة ألف دخول المنطقة باء إلا للضرورة القصوى، فتستعير هوية صاحبتها الزرقاء التي تتيح لها التسلل إلى القدس ومن بعدها إلى النقب، وفي الطريق إلى القدس تصف لنا عدنية شلبي التغيّر الكبير الذي حدث في معالم الأرض والذي صاحبه بالضرورة تغيّر ديمغرافي يظهر حتى من خلال الطريق التي ارتفعت على جانبيها جدران من خمسة أمتار «تليها مبان جدیدة كثیرة، تجمعت في مستوطنات لم تكن موجودة من قبل أو كانت شبه غیر مرئیَّة، بینما القرى الفلسطینیَّة التي كانت هناك، اختفت غالبیَّتها» وتصل في نهاية المطاف متجاوزة خطر الحواجز العسكرية على الطريق إلى مكان الجريمة الذي تحوّل إلى منطقة عسكرية محظورٌ الدخول إليها تجاورها مستعمرة، وحين تلاحق الفتاة رغبتَها الملحة بمعرفة الحقيقة وإعادة بنائها تجد نفسها وجها لوجه مع سلاح الجنود الموجه إليها و«فجأة، یغمرها ما یشبه الحریق الحاد في یدها ثم صدرها، یلیه أصوات إطلاق نار».

رواية أبطالها بدون أسماء ولكن أسماء القرى الفلسطينية التي اختفت حاضرة فيها عصيّة على النسيان، لغتها التي تلاحق التفاصيل الصغيرة مثل بطلة الرواية  التي تركز على «أشدّ التّفاصیل ثانویَّة، كالغبار على المكتب أو خراء الذبابة على اللوحة، وتراها السّبیل الوحید للوصول إلى الحقیقة، إن لم تكن الدلیل القاطع علیها» كتَبتْ لهذه الرواية النجاح واصطياد الجوائز إلى أن اصطادتها اللحظة الراهنة وأدخلتها بازار الجدل، وكان يمكن لها أن  تكون تتويجا ثقافيا عاديا لولا أن أكبر معرض عالمي للكتاب ارتأى «إلغاء حفل توزيع الجوائز» فحسب الجمعية المانحة  «لا أحد يشعر برغبة في الاحتفال في الوقت الحالي». ولم يكن هذا الخبر الذي أراده المنظمون ليمرَّ عاديا وهو يحمل في طياته تحيّزا فاضحا للسياسة على حساب الأدب، ومثلما عارض كثيرون منح الجائزة بتهمة معاداة السامية الجائرة، ساندها كثيرون أيضا وقّعوا على بيان نشرته    مجلة ArabLit ترى فيه أن «إلغاء الفعاليات الثقافية ليس هو السبيل للمضي قدمًا». وكان من ضمن الموقعين بعض الحائزين على جائزة نوبل مثل البولندية أولغا توكارتشوك، والتنزاني عبد الرزاق قرنح، والفرنسية آني إرنو. وكم كان نبيلا موقف الفيلسوف السلوفيني «سلافوي جيجك» الذي رأى في كلمته أثناء افتتاح معرض فرنكفورت أن تأجيل حفل تكريم الروائية عدنية شبلي في المعرض قرار شائن، مُطلِقًا صرخته «لست فخوراً فقط بالتواجد هنا، لكن أشعر بالخجل أيضاً». في إدانة لاغتيال الفتاة البدوية في صحراء النقب مرتين، مرة بيد الجنود الذين تسلّوا باغتصابها ثم قتلِها، ومرة ثانية على يد الديمقراطية الغربية ممثلةً بإدارة معرض فرنكفورت التي منعت الرواية التي تحكي قصتها من تكريم مستحق. ورغم التراجع النسبي لمدير المعرض نتيجة اعتراض بعض ذوي الأحجام الفكرية الوازنة ومقاطعة اتحاد الناشرين العرب وهيئة الشارقة للكتاب وجمعية الناشرين الإماراتيين، يبقى التحيّز وصمة عار كان يجدر بمؤسسة ثقافية عالمية أن تنأى عنه. وكم هو صحيح وراهن ذلك الشعار  الذي  خطه على الجدران أعضاء مستوطنة نيريم في النقب سنة 1948، كما جاء في الرواية: «لیس المدفع الذي سینتصر، إنَّما الإنسان». فما حدث في معرض فرنكفورت ليس تفصيلا ثانويا.