بالنسبة للحرب الدائرة رحاها منذ اكثر من خمسين يوما حتى الآن على أهلنا في قطاع غزّة الذي أصبح مُدمراً بشكل شبه كامل، يمكن للمتابع لمأساوية المشهد هناك أن يلحظ بوضوح التحولات الكبيرة التي أفرزتها هذه الحرب المسعورة، والتي اختلفت في الكثير من صورها عن ما سبقها من حروب، طالما افتعلتها آلة الحرب الصهيونية مدعومة من قبل الدول الإمبريالية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية وغالبية الدول الأوروبية، التي سارعت منذ الأيام الأولى للحرب لتحريك أساطيلها وجنودها وآلتها الإعلامية الضخمة، علاوة على دعمها اللا محدود لجيش الاحتلال بعشرات المليارات والاسلحة النوعية.
كل ذلك يحدث والعالم بأسره يتابع أحدث مأساة انسانية وعمليات إبادة وتطهير عرقي، ربما فاقت في قساوتها كل ما شهده وعرفه العالم بالنسبة للحروب غير المتكافئة في موازينها، فحتى اليوم هناك أكثر من ثلاثة عشر ألف شهيد فلسطيني، بينهم أكثر من ستة آلآف من الأطفال وأكثر من ثلاثة آلاف من النساء، علاوة على الآلاف ممن لا زالوا تحت الانقاض.
تداعيات هذه الكارثة الإنسانية المفتعلة أفرزت حتى الآن واقعاً فلسطينياً وعربياً ودولياً مغايراً في الكثير من وجوهه تجاه التعاطي مع الوضع الفلسطيني برمته، فعلاوة على ما تشهده مختلف العواصم والمدن حول العالم من تظاهرات ومسيرات تضامنية ضخمة مؤيدة للحق الفلسطيني في التخلص من بطش نظام التفرقة العنصرية البغيض هذا، وهي تظاهرات ربما تدلل في حدّ ذاتها على إمكانية المراهنة من الآن فصاعدا على تنامي وعي جماهيري عالمي مختلف، بدأ يتحسس آلام وقضية شعبنا الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وبكل تأكيد ساعدت في ذلك وسائل وأدوات التواصل الاجتماعي المختلفة رغم القيود المفروضة عليها، بالإضافة إلى ما أحدثته ثورة التكنولوجيا العالمية من تحولات كبرى، علينا الانتظار قليلاً لمتابعة المزيد من تأثيراتها بالنسبة للعديد من القضايا التي يشهدها العالم.
الشيء الوحيد الذي بقي حتى الآن دون تغيير إيجابي هو الموقف السلبي واللا إنساني واللا أخلاقي الذي تستمر الدول الكبرى في اتباعه، فارضة أجنداتها ومشاريعها الإجرامية وحروبها القذرة على مقدرات الشعوب والدول، تدعمها في ذلك كل المنظومات العاجزة التابعة لها من هياكل ادارية ومنظمات صورية، طالما شنفت آذاننا بالتباكي على قضايا حقوق الإنسان والتعاون الدولي والاقتصادي!، دع عنك ما أفرزته هذه الكارثة الإنسانية من تخاذل دولي وعربي رسمي فاضح، لا يتسق أبداً مع ضخامة الحدث ولا حتى مع ذلك الزخم الجماهيري العالمي والعربي المندد بالحرب والعدوان الهمجي الصهيوني غير المسبوق، والذي بات يمثل أكبر توتر سياسي وعسكري عالمي في الوقت الراهن.
لقد تناسى العالم الحرب الدائرة في أوكرانيا، وهو يتابع تفاصيل القتل الممنهج في غزة ومدن الضفة الغربية، ولازال الكثير من المتابعين يتوقعون الاسوأ بكل اسف، خاصة ما يتعلق بامكانية توسيع رقعة العدوان وتداعياته بالنسبة لدول المنطقة، بما يدخل معه الصراع العالمي مرحلة جديدة لا يمكن التكهن بمآلاتها.
ربما أغرب ما يمكن استنتاجه جراء تداعيات الكارثة الإنسانية في غزة هو هزال وهشاشة الموقف العربي الرسمي والعجز عن مجرد الاستثمار السياسي الأمثل لكل ما يجري بالنسبة لحاضر ومستقبل المنطقة، خاصة وأنّ هناك مخاوف كبرى حقيقية من تحولات جيوسياسية قادمة يجري التمهيد لها بطرائق مختلفة منذ بداية العدوان على غزة، ليس اقلها ما تعلنه سلطات الاحتلال الصهيوني من ضرورة التهجير القسري لسكّان غزة، والإصرار على إحداث نكبة فلسطينة أخرى، مع تلميحها علناً لإغراءات مالية ضخمة لبعض دول الجوار الفلسطيني لقبول ما تحاول فرصه من واقع جديد أكثر سوءا.
وعلى الرغم من دموية ومأساوية المشهد الفلسطيني، تبقى الأيام والأسابيع المقبلة حبلى بالكثير من المفاجآت والتحولات المنتظرة، لن تهوّن منها صفقات تبادل الأسرى التي ابتدأت بين فصائل المقاومة ودولة الكيان بعد أن عجزت قوات الاحتلال عن اجتثاث ما تواجهه من مقاومة ورفض لتمرير مشاريعها ومخططاتها البغيضة.