في النكتة القديمة من أيام الاتحاد السوفييتي، تجادل روسي وأمريكي عن بلادهما، حيث افتخر الأمريكي بحريّة التعبير قائلاً: أنا أستطيع أن أذهب إلى البيت الأبيض، وأشتم الرئيس الأمريكي، فرد عليه الروسي: وأنا أستطيع أن أذهب إلى الكرملين، وأشتم الرئيس الأمريكي..
واقعًا، لا يوجد شيء اسمه حرية تعبير استنادًا إلى ميثاق حقوق الإنسان، وإنما هي تنشأ ـ كما حدث تاريخيًّا في أوربا ـ ضمن مجتمع من أجل إدارة الصراعات بشكل سلمي، والتي لم تحدث إلّا ضمن توازنات سياسية واجتماعيّة فرضتها القوى المتصارعة. وهي خاضعة للتعديل والتحوير، ضمن تلك التوازنات أيضًا.
لا توجد حرية تعبير مطلقة، دون عواقب، إلا بين المرء ونفسه، أو في الطب النفسي.
كانت الناس تعبّر عن آرائها قبل ميثاق الأمم المتحدة، مثلما كانت تتحاور بالحجج والبراهين والمنطق، قبل أرسطو. ما الفائدة إذًا من هذا الميثاق، أو هذا الحق؟! فيما هي في الواقع، ليستْ هبة، وإنما تؤخذ بالأضراس والنواجذ، وهي لا تعبّر عن رؤى فرديّة، بقدر ما تعبّر عن تيار اجتماعي. وهي ليستْ عبارة عن سلسلة متوالية من التقدّم أو التحرّر عبر الزمن، فشواهد التاريخ تثبت أنها متقلّبة حسب الوضع. فما كان يمكن قوله يصبح ممنوعًا، والعكس. يمكن أن تتفاجأ من مقدر الحرية في مجتمعات اسلاميّة، في فترات قديمة، ويمكن أن تُصدم بمقدار القمع في مواضيع أخرى. فاعتبار حريّة التعبير قيمة مطلقة، سيصطدم في كل مجتمع بمحرّمات “تابو”، وعلى عكس النكتة السابقة، كان مجرّد اظهار ميول شيوعيّة في خمسينات أمريكا، يعرّض المرء للسجن، أو الطرد من العمل.
مؤخرًا، أصبح هناك في الغرب ما يسمّى “الصوابيّة السياسيّة pc” وهي تعني اللياقة الاجتماعيّة واللغوية في مجتمع متعدد ،بحيث أصبح هناك حساسيّة زائده تجاه خطابات الكراهيّة، أو العنصريّة، إلا أنّ ما يثير التساؤل، هو مقدار الحذر الشديد، والمبالغ به في أحيان كثيرة، في تناول عدّة مواضيع تخص فئات مجتمعيّة، بحيث أصبح النقد شبّه محرّم، وهذا ما يعاني منه ـ على الأقل ـ أصحاب “الكوميديا المرتجلة” غربيًّا، بحيث تصبح أيّة إشارة لهذهِ الجماعة أو تلك، كما لو كانت خطاب كراهية. رغم أن النقد يدخل في صميم عمل الكوميديا.
لكن هذهِ الصوابيّة السياسية لم تمنع الاستهزاء بالرسوم الكارتونية على نبي الإسلام، أو حرق القرآن. فالعقلية الغربية.. تعتبر هذا الفعل من ضمن حريّة التعبير في انتهاك المقدسات الدينية، بناءً على تجاربهم السابقة. فيما يصرُّ المسلمون على أنّ انتهاك المقدسات أمر لا يمكن قبوله أو التسامح بشأنه.
ولكنْ المسألة من زاوية أخرى، يمكن اعتبارها ضمن خطابات الكراهيّة، التي تحرّض ضد فئة من الناس، بناءً على انتمائهم الديني. وهذا أمر يمكن للغربي فهمه، لو تمّ تناوله من هذا الباب.
ولكن،،،
إلى أيّ حد، سيعتبر أي نقد ديني/ أو مذهبي/ سياسي .. ضمن خطاب الكراهية والاستفزاز أم ضمن حرية التعبير؟. وكيف نفرّق بين النقد وبين التحريض على الكراهيّة؟.
هكذا اتهم “البيت الأبيض” إيلون ماسك باعتباره يسمح بخطاب الكراهيّة ومعاداة الساميّة على منصة إكس، حيث سارع الأخير لاعتبار أن مجرّد الحديث عن انهاء الاستعمار أو تحرير فلسطين.. جزء من معاداة الساميّة.
إنني أتفهم هذا القانون ضمن النطاق الغربي، ولكن تعميمه على مجمل الكوكب، ليس ذو معنى. فهو نتاج ظروف تاريخيه أوروبية. فما الذي يجعله ملزما لبقية الدول، وهي لا تعيش في فضاءه التاريخي والثقافي؟ اعني، بدلا من إنكار تهمة معاداة السامية، الأجدر هو نسف السؤال باعتباره غير مطروح. ولتوضيح الفكرة … فلنتخيل أوروبا امرأة غريبة تجلس بقربك في الباص ومستغرقة في أحلام يقظتها حيث تتسلسل في ذهنها فكرة تلو الاخرى، ثم تسألك فجاة: هل سرقت القطّة؟ بالطبع لن تجيبها: لا ولن تنكر. لأنك لا تعرف عن أي قط لعين تتحدث، وإنما ستقول: ما مشكلتكِ يا امرأة؟ أي ستوجه الاستجواب إليها. هذا لا يعني أنه قد لا يوجد تمييز ضد اليهود في المجتمعات الإسلامية. مثلهم مثل أي جماعات أخرى. ونسميه تمييزا … لكن معاداة السامية هي حكر على الغرب فقط، وضمن فضاءه الثقافي.
وللمفارقة، سنجد أنّ كثيرًا من داعمي اسرائيل البيض، هم من معادي الساميّة، ولكنهم يلتقون معها برجماتيًّا، حيث يتمّ التخلص من يهود اوروبا، وبالضد من لاجئي الشرق الأوسط الوافدين الجدد إليها.
الأكيد أن كل مجتمع لديه محرّمات على القول، تهدف إلى تثبيت الاستقرار ومنع الفتنة. بل وتثبيت العقل أيضًا، فلا يمكن أن يتمّ السماح لأي ترويج بالبيدوفيليا، أو أكل لحم البشر، إلى آخره.. وإن كان ضمن ـ القول لا الفعل.
إذًا، لا توجد حرية تعبير مطلقة، هذا ما نتفق جميعًا بشأنه. ولكن الخلاف سيبدأ حول من يضع القيود على حريّة التعبير؟.
يفترض أن من يضع الحدود، هو المجتمع نفسه، بكل أطيافه.. بحيث تمنع الاستفزازات وإثارة القلاقل. ولكن المشكلة هي حين يطرب المجتمع لغواية وضع الحدود، تأكيدًا على هوياته المتعددة وثبيتًا لها، بحيث تصبح تلك الحدود معيقة للتقدّم أو إيجاد حلول لمشاكل المجتمع، أو الخروج من نفق الاستفزازات، والاستفزازات المضادة.
فلا يمكن لأي وعي ديني أو اجتماعي أن يتطوّر دون نقد.
فالمبالغة في “الصوابية السياسيّة” تعني أن هنالك مشكلة يتحتّم التستّر عليها، وتجّنّب الحديث عنها، وأن بين الجماعات المختلفة مسافات من الحذر والريبة، تمنع تبادل النقد الحقيقي. بل وتقبّل الشتائم المرحة المتبادلة، كما يفعل بعض الأصدقاء المقرّبون مع بضعهم، ولكن تبادل الشتائم برحابة صدر، يحتاج إلى مساواة كاملة.