صورة الحياة وسيرة المكان

0
31

تجربة الفيلم الوثائقي عند أماني الطواش

في المشهد الثقافي المعاصر، لا يمكن تجاوز الأهمية التعددية للمنجزات الثقافية، في مجالات الفكر والأدب والفنون المختلفة، ومن بين أساسيات هذه المنجزات، يتصدّر الفيلم الوثائقي مكانةً خاصة؛ تلك التي تنتمي إلى الكثافة والجودة، في إيصال المعنى والصورة، وصولاً للتاريخ والذاكرة.

العاصمة البحرينية المنامة، تحمل امتداداً عريقاً في تاريخ البحرين الحديث والمعاصر، مما جعلها مسرحاً للكثير من الأحداث والتحوّلات والمراحل؛ والتي عاشها البحرينيُّون على مدى أجيالٍ مختلفة، وما زالت تحفظها وتتذكرها، ذاكرتهم الثقافية والاجتماعية. ولم يكن الباحثين والمفكرين، بعيدين عن هذه الذاكرة، فقد تناولها الكاتب والباحث د. نادر كاظم، في كتابه “لا أحد ينام في المنامة”.. والذي ترافق بعد صدوره، فيلماً وثائقياً، من إعداد الفنانة أماني الطواش؛ والتي سنحاول في هذا المقال، الإضاءة على تجربتها المتميّزة في هذا المجال.

إن الأهمية التي يحملها هذا الوثائقي – والذي اعتبره مكملاً رائعاً للكتاب – أنه يعمل على تقدير مكانة التاريخ والذاكرة. وعند الحديث عن ذاكرة المنامة، لا نستطيع أن نفصل كثيراً بين الهوية البحرينية والهوية الإنسانية؛ تلك التي نعرفها ونعيشها منذ عقودٍ طويلة، بفضل مركزية المنامة ودورها، حضارياً وثقافياً واقتصادياً.


المنامة هي مدينة غير تقليدية، وقد حملت في قلبها البشر على اختلافاتهم، وسارت نحو خطوات العمران والحداثة شيئاً فشيئاً؛ وأما من جانبٍ آخر – وهو الأقرب إلى الكتاب والفيلم – وهو سيرة المدينة وناسها، وتاريخهم الإنساني، بكل ما يحمله من أحداثٍ وتحوّلاتٍ ومراحل، وصولاً للاختلافات والتعددية، التي جعلت منها ذات أهمية وجدارة، بأن تكون لها سيرتها الخاصة، والتي أنجزها د. نادر كاظم، في كتابه الرائع.

الفيلم الوثائقي أو الفيلم بشكلٍ عام، يختصر على القارئ أو المشاهد، الكثير من المحطات والتصوّرات؛ خصوصاً أن فيلم “لا أحد ينام في المنامة”، يعمل على المزج والترابط، بين مشاهد الماضي والحاضر، لتقديم ذلك التكامل بين منجز الكتاب وصورة الحياة الحديثة؛ تلك المتباينة بين المكان والحنين من جهة، وبين متطلباتنا العصرية، التي صارت هاجساً وتحدياً في الوقت ذاته.

يبدأ الفيلم بأحد المشاهد الليلية، مع أجواء المقهى وطقوس الكتابة، في صورةٍ كلاسيكيةٍ هادئة، تبعث على الإصغاء لتفاصيل المنامة النابضة بالحياة، ولذاكرة المدينة التي لا تنام؛ هذا ما يقوله تاريخها البعيد والقريب، حتى هذه اللحظة. وقد ترافقت هذه البداية، مع تقديم صاحبة المحتوى، الأستاذة أماني الطواش، توصيفاً للكتاب، والذي نقرأه من خلال الكلمات التالية: “لا أحد ينام في المنامة، هو ليس كتاباً تاريخياً للمدينة وناسها وأمكنتها وتياراتها وأمزجتها فحسب؛ هو شاهدٌ على التحوّلات التي مرت بها المنامة. هو كتابٌ يأخذ القارئ في رحلةٍ قد تكون شاقّة، لكنها ستكونُ ثريةً وشائقة. ثريةً ومزدوجةً، يتداخل فيها التسامح السمح والسخيّ، إنها ذاكرة المنامة؛ إنها ذاكرةُ المنامة كمكانٍ وبشر. ذاكرةُ التنوّع والامتزاج، بين إثنياتٍ وجماعاتٍ، دينيةٍ ومذهبيةٍ وقومية. هي ذاكرةٌ لا تقبلُ الاختزال والتبسيط، في هويةٍ إثنيةٍ أو دينيةٍ أو مذهبيةٍ واحدة”.

لا زالت المنامة – حتى اليوم – تأخذ مكانةً كبيرةً في وجدان البحرينيين وحياتهم. وبعد الإضاءة على الجوانب الإنسانية والثقافية، بين مَنْ يعيشون في المنامة، تأتي الجوانب التجارية والمهنية، والتي حملت تأثيراً مهماً في التواصل والتعامل، بين الأطياف والمكوّنات المختلفة؛ ومن حسن حظي أنني تعرفت عليها عن قرب، عندما كنت أرافق والدي إلى سوق المنامة، وهو الذي عمل في محله لبيع الأقمشة، لقرابة 40 عاماً هناك؛ وأن المحيط المهني والإنساني – الذي عشنا فيه وسط السوق – كان يميل إلى الاحترام والتلاقي، إضافةً إلى أجواء السوق النشطة والحيوية؛ فكانت التجارة رائجة وقوية، وهي التي كانت في السنوات والمرحلة الأولى من مطلع الألفية، وما قبلها أيضاً. وعند الحديث عن السوق والمنامة وحضور البحرينيين فيها، كانت هنالك أجواءٌ من الجدير التنوير عليها، وهي من ملامح التمدّن الراقية، التي يعكسها أصحاب المحلات المختلفة، من التجار البحرينيين والعاملين معهم؛ من خلال الارتباط والجدية بالتجارة والعمل، وأيضاً في الصورة والشخصية العامة، أي في اللباس والزي والهيئة، تلك التي تنتمي إلى القيم الحديثة والعصرية، البعيدة عن الصورة التقليدية.


مفهوم التعايش والتسامح، من المفاهيم التي عكستها العاصمة البحرينية المنامة فعلاً، فالتعددية والاختلاف، كانت علامةً فارقةً في ثقافة البحرينيين وهويتهم؛ من خلال وجود هذه الانتماءات الدينية والمذهبية فيما بينهم. ومن الشخصيات التي ظهرت في هذا الوثائقي، أحد تجار سوق الذهب في المنامة، واسمه: «براديب لكشمنداس»، وهو يتحدث عن خصوصية المنامة في قيم التعايش والاحترام الإنساني – باللهجة البحرينية البسيطة – ولكنها تحمل الكثير من الأهمية والدلالة والمعنى؛ والتي نقرأها عبر هذه الكلمات التالية: “خاصة المنامة تعرف شنو؟ مافي فرق بين الهندي ولا الهندوس ولا المسلمين ولا (كرستان) ولا اليهود؛ وأحسن شي – مو على الكاميرا أقولك يعني – لكن مال البحرين، تعرف أحسن شيء في البحريني: «يحسب الأوادم أوادم».. ما يحسب..؟! لا: Body same same, This is the best thing about Manama or Bahrain.

وبعد هذه الكلمات الواضحة، والتي نفتخر بها في ثقافتنا البحرينية، كرصيدٍ إنسانيّ وحضاريّ، لمجتمعنا وبلدنا البحرين. وإن هذه القيم الحسنة والراقية، قد أعادت لي شريط الذكريات، لأحد المواقف التي عشتها ورأيتها في سوق المنامة، وهي تعودُ لفترةٍ زمنيةٍ تقترب من الـ 17 عاماً؛ وهي صورة أحد أصحاب المحلات القريبة منا، وهو يسير برفقة رجلٍ بحريني – قبل أذان الظهر تحديداً – والذي كان يوصله إلى المسجد القريب، في كل يومٍ تقريباً. هل هنالك ما هو غريبٌ في هذا المشهد؟ بالتأكيد لا؛ ولكن الاستثناء الحقيقي يكمن في الإنسانية، وهو أن هذا الرجل البحريني – الكبير في العمر – كان رجلاً ضريراً وبسيطاً جداً؛ وأن صاحب المحل، الذي ينتمي ظاهرياً، لدينٍ ومعتقدٍ يختلف عن معتقد الرجل الذي يوصله، والذي كان يسير في المقدّمة معه، ممسكاً بيده، يمشي برفقته بتلك الخطوات البطيئة. وعلى ما يبدو – أن هذا الرجل البحريني – هو من أهل المنامة، وأنه يعيش بالقرب من السوق، أو ربما كان هنالك أحدٌ يوصله إلى المحل، والذي كان هو محطته، التي ارتبطت بهذا الإنسان؛ الذي يأخذ بيديه، من أجل إيصاله نحو وجهته، في هذا الوقت من النهار.


إن هذا المشهد من سنوات النشأة، والذي كنت أراه في سوق المنامة، قد منحنا الكثير من المعاني والقيم؛ وقد قرأت سابقاً كلمة “الإخاء البشري” للكاتب والمثقف التنويري سلامة موسى، الذي نفتخر بنهجه وفكره؛ ولكنني رأيتها على الحياة الحقيقية، في هذه الصورة الإنسانية.


بين الوثائقي والكتاب، هنالك الكثير من الفصول والمراحل، التي لا نستطيع أن نوجزها في مقالةٍ واحدة، لأنها تستحقُّ الكثير من وقفات التقدير والقراءة. وفي ختام هذا الفصل، لا يمكنني عند محاولة التعريف بمكانة المنامة وسيرتها، سوى الإضاءة على التعريف العام والشامل، والذي صاغته الأستاذة أماني الطواش لهذا الكتاب؛ في التنوير على المراحل التي شهدتها المنامة، وهي تنمو وتتشكّل وتنهض، يوماً بعد آخر، والتي سنقرأها من خلال الكلمات التالية: “لا أحد ينام في المنامة، ليس كتاباً عن تاريخ تكوّن المدينة فحسب، ولا عن تاريخ وأفكار سكان المدينة وتوجهاتهم وأمزجتهم؛ هو ليس كتاباً عن جغرافيا المدينة، كمكانٍ أو تخطيط، ولا عن خصوصية المدينة الاستعمارية، ولا عن المدينة ما بعد الاستقلال. كتابُ لا أحد ينام في المنامة، لا يتناول فقط حياة المدينة وهي تتشكّل في تفاعلٍ معقد، بين الإنسان وحاجاته، والبيئة المادية وأشيائها ومعطياتها، ولا هو عن أخلاقيات التعايش وفن العيش مع الغرباء في مدينةٍ معولمة؛ بل هو كتابٌ عن كل ذلك، مجتمعاً في توليفةٍ خاصة، وبمقاربةٍ متعددة المداخل، وعصيةٍ على التصنيف”.

***

أما الفيلم الثاني الذي قدّمته الأستاذة أماني الطواش، فقد تناول كتاب “تاريخ الأشياء”، والذي عمل من جديد، على البحث والمقاربة، لمحتويات الأرشيف المتوفرة، من صورٍ وتسجيلاتٍ ووثائق؛ للمراحل والأماكن الحيوية في تاريخ البحرين، تلك التي ساهمت فعلاً في النهوض والتمدُّن بالمجتمع البحريني؛ من خلال إنشاء المستشفيات والمدارس والمكتبات، وأيضاً تشييد الجسور والشوارع الحديثة؛ التي كانت عنواناً مهماً وحقيقياً، للتحديث والتقدّم بهذا المجتمع نحو الأفضل.


إن المنجزات الثقافية الهادفة، تصبح أكثر جمالاً وجودةً عندما ترتبط بمفهوم التكامل والتعاون؛ ذلك الذي يعمل على التنوير بالمعارف المهمة، التي ترتقي حقاً بالحياة والثقافة والمجتمعات. وهذه الإشارة، ستقودني للحديث عن المقدّمة التي تناولها الفيلم؛ من خلال الإضاءة على المؤرخ الفرنسي «فرناند بروديل» وبحوثه التاريخية، حول التاريخ وطبقاته، والتي يصنفها عبر ثلاث طبقات، وهي التالية: الزمن الجغرافي والجيولوجي، الزمن الجماعي، والزمن الفردي أو تاريخ الأحداث.

ربما الكثير منا، لم يسمع باسم «بروديل» مسبقاً، ونحن هنا – من خلال هذا التعريف – نقترب من مفهوم التكامل في هذا المجال، فكرياً وثقافياً. وهنا يكون التقدير والمجهود الكبير، إلى الكاتب والباحث د. نادر كاظم، في متابعته للتاريخ وكتبه ومؤلفاته؛ التي كانت خير معينٍ لصياغة كتاب “تاريخ الأشياء”.. وأيضاً لما يحمله تاريخنا البحريني، من الثراء والأهمية، في مراحل التطوير والتحديث وبناء الدولة.

لم يأتي “زمن الأشياء” أو “تاريخ الأشياء” من الفراغ، بل كان عنواناً مكملاً لسيرة البشر والمجتمعات، في تاريخ الدول والمجتمعات الحديثة. وعندما نتحدث عن مشاريع التحديث في بلدنا البحرين، فإننا نعود لمرحلةٍ لا تزيد كثيراً عن الـ 100 عام؛ ونحن نتابع بدايات النشوء والتأسيس، للسلطة والمؤسسات الحكومية، وما رافقتها من منجزاتٍ في الحياة المدنية؛ تكوّنت تدريجياً في الحياة البحرينية، كبدايةٍ لتكوين المراحل الأولى من تاريخها الحديث، الذي لا زال مترابطاً ومتصلاً حتى يومنا هذا.


بعد طبقات «بروديل» الثلاث، يأتي كتاب د. نادر كاظم، ليضيف الطبقة الرابعة إليها، من خلال كتابه “تاريخ الأشياء”؛ والذي كان هو الجزء الأكثر أهميةً، من أجل أن نتعرف على «ملاحم» البناء والنهوض في تاريخ البحرين الحديث. وإن الجهود الذي بذلتها الأجيال الأولى، في المراحل والأزمنة الصعبة – عبر العمل والتطوير والنهضة – جديرةٌ بنا حقاً أن نتوقف عندها؛ قراءةً وبحثاً وتطويراً، تقديراً لمنجزات الحداثة التي نعيشها اليوم؛ تلك التي تأمل منا دائماً، أي من البحرينيين، الرعاية والنهوض بها نحو المستقبل.


إن بداية “تاريخ الأشياء” في البحرين، لم يكن بتلك السهولة أبداً، وعندما نتكلم عن بدايات المنجزات الحديثة تقريباً – تلك المرتبطة بالحياة العامة والناس – سنتحدث عن شارع الحكومة في المنامة. ولأن الخطوات الأولى، تكون دائماً هي الأصعب والأكثر رسوخاً في الذاكرة؛ فمن المهم حقاً، أن نتعرف على سيرة هذا الشارع الرئيسي في البحرين، والذي يُضيئ عليه د. نادر كاظم، من خلال الكلمات التالية: “في تاريخ البحرين الحديث، يعتبر شارع الحكومة أو الشارع البحري أو الطريق البحري، هو أول شارع حديث في تاريخ البحرين؛ واستغرق إنشاءه – أو على الأقل، استغرق إنشاء المرحلة الأولى منه – حوالي 3 أو 4 سنوات، يعني بدأ من 1924 وافتتح في سبتمبر 1927. هذا الشارع، بقي على مدى 50 عاماً، شارعاً حيوياً؛ وأنا أسميه في الحقيقة، تاج ودُرّة الشوارع الحديثة في تاريخ البحرين، كان أجمل شارع في تاريخ البحرين، ولديه إطلالة على البحر – أعطته تميّزاً وجاذبيةً وخصوصيةً – لم تكن لأي شارع آخر في البحرين. هذا الشارع، بالرغم أنه تحوّل إلى شارع داخلي، بعد إنشاء شارع الملك فيصل في منتصف السبعينات؛ إلا أنه ما زال شارعاً حيوياً، وشريان مهمّ في قلب المنامة، ومن الصعب الحديث عن تاريخ المنامة الحديث، والواجهة الشمالية للمنامة؛ من دون الحديث والمرور على شارع الحكومة”.

***

الكتابة في التاريخ، بقدر ما تحمل من صعوبة ومسؤولية، تقع أمام المشتغل في هذا المجال، البحثي والأكاديمي المهمّ؛ ولكنها تترك أبعاداً مخلصةً للتاريخ، في الحاضر والمستقبل. هذه الأبعاد، التي لا تخلو أحياناً من مراحل التعب أو الغربة، وهي طريقٌ شائكٌ منذ بدايته؛ ولكنها تجعل من المعنى حاضراً فينا، أي بين ذواتنا ومنجزاتنا.


الفنانة أماني الطواش، لا يمكنني أن أكتب لها أكثر من كلمات الشكر والامتنان، وهي التي جعلت من كتابيّ: “لا أحد ينام في المنامة” و”تاريخ الأشياء”، قريبين جداً من وجداننا وذاكرتنا. وإن هذه التجربة الرائعة، في إعداد وصناعة الفيلم الوثائقي؛ تستحقُّ أن تكون محل تقديرٍ واعتزاز، لدى القائمين على الثقافة والإعلام، في بلدنا العزيز البحرين.