كم هو مبهج مشاهدة مناظر طبيعية من عمق الصحراء وهي مؤثثة بسينوغرافيا مسرحية على امتداد البصر؛ الصحراء التي ألهمت الشعر والكتابة والرسم، ليس لقاطنيها أو مرتاديها فحسب، بل سحرت المستشرقين والأجانب وغيرهم من الباحثين عن الأصل والجمال، الذين لا يزالوا يروون فيها سحر الطبيعة الصافية التي تستحق التأمل وتنتج الفن، فكيف إن أنتجت الصحراء مسرحاً بمقاييس تعادل أو تفوق الخشبة؟
يتخذ المسرح من علبته الإيطالية مكاناً معتاداً للعرض، منذ أن قُدّم إلينا هذا الفن بشكله الأوروبي، وهو مترسخ وقابل للتعديل، وثابت في شكله الذي اعتدنا عليه. وبرغم وجود الظواهر المسرحية التي تشكلت قبل وجود الشكل الإيطالي من أشكال العروض؛ مثل خيال الظل ومسرح التعزية وغيرهما من الأشكال المسرحية العربية المعروفة، إلا أن التجارب الكثيرة خارج العلبة؛ مثل اختيار ساحات مفتوحة، أو بيوت قديمة، مزارع أو أسواق، كلها بدائل يقصد بها التعبير الأقرب لفكرة المخرج أو موضوع العرض، ربما يخفق بعضها نتيجة الرغبة “فقط” باستبدال الخشبة، ويمكن قياسه ذلك بعد مشاهدة المسرحية، والاستنتاج عن استحقاقه العرض خارج المألوف.
في إمارة الشارقة؛ حيث الاهتمام الكبير بالثقافة والفنون والمسرح بشكل موسع، تفتّقت فكرة المسرح الصحراوي عن رؤية راعي الثقافة الأكبر سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، الذي يدرك بقناعات صادقة أن “السحر الكامن في عوالم المسرح يشكل عامل توحد إنساني”؛ لذا تتبنى الشارقة معظم نشاطات المسرح الجادة في الداخل والخارج، تنفيذاً لهذه الرؤية الشاملة والتوجيه من لدن سموه. وقد تمّ تنفيذ فكرة المسرح الصحراوي قبل سنوات، عبر استغلال فضاء الصحراء المفتوح، في تقديم عروض مسرحية متصلة بهذه البيئة ذات الخصوصية العالية بتناول موضوعات ذات العلاقة وأكثر، وفي رهان على استنطاق الطبيعة عبر خيال المخرجين.
والحقيقة أن الفكرة، بقدر تحدياتها التي تفرض معايير مختلفة -نسبياً- عن لعبة المسرح ذي الإطار المحدد، هي مغرية لتحقيق الرؤى الفنية حسب خيال المخرج وتطبيقه إياها على الواقع. لكن ثمة أسئلة تخصّ تغيّر المكان. وفيما يحدث في السينما -على سبيل المثال- من تقنيات التصوير، تسمح برؤية ملامح وتعبيرات الممثل بدقة، يحتاج ممثل المسرح إلى تحديده أحياناً بشكل مبالغ فيه حتى يتمكن المتفرج في الصفوف المتأخرة من مشاهدته. وإذا كان ذلك ينطبق على أمتار تقع بين الحد والحد على الخشبة، فكيف بالفضاء المفتوح؟
إن أول دهشة يتلقاها المتفرج في هذه المساحة الشاسعة على امتداد البصر، إلى حدّ التلال في آخر هذه الصورة الربانية، هي في كيفية إشتغال العمل على هذا العمق؛ كيف تنعكس الإضاءة على التنوع بين مكان الحدث وخلفيته وكواليسه؟ وكيف توظف السماء بنجومها الضاوية سقفاً لمناجاة، أو لقاء عشاق، أو تصوير معركة بين طرفين لا تصهل خيولهما أثناء المعارك، بل تصيح كالنسور كما يقال، وهي قادمة من وراء التل، ومن الكواليس المتخيلة في جنبي منطقة المشاهدة. هذه الصور الجميلة -التي تتباين من عرض لآخر- قادرة على إشعال خيال المتلقي، والإيحاء بأن هناك مزيداً من السحر المنتظر بعد كل مشهد، وهذا يعني أن البيئة المهيئة للعرض خيار مناسب وقادر على التشكل حسب خيال المخرج.
استضاف المهرجان من قبل دورات ست، جمعت عروضاً من أماكن مختلفة، وتعدد الوجهات يعني أن ثمّة ثقافات ستقدم نفسها وبيئتها. فالخصوصية هنا متاحة أكثر من العلبة الإيطالية والتصاقها بطبيعة المكان الذي يحتم -غالباً- حدثاً مرتبطاً بالبداوة، والبر، والشعر، والأجواء المتعلقة بهذا. وربما قرأ المخرجون مزاج الجمهور، الذي يمثل عدد كبير منه ساكني الفندق الصحراوي، والمهتمين الحريصين على مشاهدة المسرح، عدا الضيوف والمتخصصين طبعاً، فلجأوا إلى قصص الحب التي تواجه صعوبة في استكمال طريقها معاً، بالإضافة إلى خطوط إضافية من العداوة، والحرب، والثأر، وصراع القبائل بين بعضها البعض.
وهذا التناول يعني البساطة في الحدث، لا السطحية. فخلق حدث، كما كتبه سلطان النيادي في عرض “الناموس”، من إخراج محمد العامري، يأتي في إطار تحليل فكرة الخلافات التي تفرق، ولا يدرك أصحابها أنهم ضعفاء حين يكونون عصيّاً متفرقة، كما تذكر الحكاية القديمة المعروفة؛ في حين أن تطبيق مبدأ “في الاتحاد قوّة” عصيٌّ نتيجة عدم توافق الرأي، وحين تتعرض القبيلة لغارة، فإنه يسهل تفتيتها؛ لأنها كذلك بدون تدخل الآخرين! لذا ليس غريباً أن يتّكل كل منهم على الآخر ليذهب إلى الحرب والدفاع عن اسم وشرف القبيلة. وحين كانت الإناث -وهذه رمزية مهمة- تدفعن الرجال للمواجهة، يبررون عدم ذهابهم في إيكال هذا العمل لمن سيذهب يقيناً. ولا يخلو عرض للعامري المتميز من لفتة بصرية، ولو صغيرة، وهو هنا يغافل المتفرج في إحدى الغارات، ويخفي الخيام بخفة الساحر الذي يجيد سرقة عين القادم لمشاهدة عرضه.
وفي العرض الأردني، من ذا الذي يستطيع أن يخيب أمل جمهور ليصفق بحرارة لرجوع حبيبين فرّقهما عرف القبيلة الأحمق؟ من الذي يقيس هذه البهجة التي تعلن نفسها في “منيفة”، من تأليف أحمد الطراونة، وإخراج فراس المصري، عبر تصفيق حار، حين يقترب حل العقدة التي حصلت بلا ذنب لأي منهما، في دراما تشبه ما كان يعرض بالتلفزيون في وقت بعيد، من صراع تقليدي بين الخير والشر، يسعد الجمهور بالنهايات السعيدة التي تحسن مزاجه، بعيداً عن صراعاته الشخصية اليومية؟! أليس الفن، بفروعه المتعددة المغرية الجميلة، أحد مسببات الغذاء الروحي الذي يجوِّد الحياة أكثر؟ وعلى نفس سياق، قصة الحب غير المتوافقة مع عرف القبيلة؛ ينتزع الأخ أخته من زوجها، بعد أن شب خلاف مفاجئ بين قبيلتيهما، لكن حبهما يتحدى هذا البعد الجبري؛ عبر إنجابهما طفلاً يلم شمل الطرفين مجدداً، وذلك في العرض السوري “ذيب”، وهو اسم المولود الذي رمز لاسمه بمعانٍ عدة مرتبطة بالمكان، من تأليف وإخراج سامر إسماعيل.
أما المخرج المصري انتصار عبدالفتاح، الذي أعد عمله عن “كتاب الموتى الفرعوني”، فقد عمل بأسلوب البولفونية الذي يشتغل عليه في أداءاته المسرحية، بتنويعات مختلفة ومتمازجة. وفي “الصحراوي”، قدم عرض “ترنيمة الصحراء” الذي بدا مختلفاً عن العروض التي سبقته من ناحية السرد التقليدي لحكاية مفهومة تصل إلى الجمهور بشكل مباشر، عبر تعامله مع المكان بتجرد، دون ربط عناصره بأي من مفردات الصحراء، عدا توظيفه للجبل عبر جعله راوياً للحدث بصوت الفنان الراحل د. هناء عبدالفتاح، وفضّل الاشتغال على الرموز عبر استحضار الإنسان الذي تحيط به العوامل الأساسية عبر أربع شخصيات نسائية، تمثل الأمومة والماء والهواء والرياح -ربما- وعلاقته الروحية والمادية مع هذه العناصر، وعلاقة الفرد/بطل الحكاية بما حوله، حين يحاول أن يرى ببصيرته هذا المكان.
ومن الغنى مشاهدة أعمال مسرحية تنتمي إلى بيئات وثقافات مختلفة قدمت في الصحراوي. لكن تجربة موريتانيا قد تبدو مختلفة عن بقية العروض الأخرى، ربما لكونها الأبعد جغرافياً، مقارنة بسوريا ومصر والأردن والإمارات بالطبع، أو لعل هذا الاختلاف المتميز نابع من القدرة على توظيف موروث شعبي متعلق بقصص يعرفها أهلها، بالشعر، والمفردات، وحضور الزي التقليدي، وتوظيف كل هذا مسرحياً؛ ليراها المتلقي من خارج موريتانيا سرداً لحدث يستخدم العناصر المسرحية بالصحراء. وقد أتي عملهم “أولاد العالية”، الذي كتبه وأخرجه سلي عبدالفتاح، بإشراف من المخرج التونسي حافظ خليفة، في انقسام أبناء عائشة وعالية، واختلاف مصيرهم ومكانتهم في المجتمع، ومن ثم الخلاف الذي نشب على خيل “المزوزة”، في نوع من الاعتداد والارتباط البدوي بها، بل وربط النصر بوجودها.
كل شيء في الصحراوي امتزج بالسكون القابع في المكان، على الرغم من الفرقة الشعبية المتواجدة بفنونها وصخبها، وفنون الفرجة التي تقدمها قبل كل عرض، لكن هذا لم يخرج عن الجو العام. وحين يطلق على النقاش الذي يلي العرض المسرحي ندوة تطبيقية أو تعقيبية بشكل مألوف في الوسط المسرحي، تأتي مفردة “المسامرة النقدية” في سياق المهرجان الصحراوي الذي يناقش عروضه بخفة مسامرة المجالس التي بنيت لها دكة مرتفعة عن الأرض “مصطبة”، في الفضاء المكشوف، والإضاءة المناسبة التي تتيح للصغار من ساكني الفندق الصحراوي المصاحب للمهرجان اللهو على التل الصغير بالرمل، وراء أحد المتحدثين الجادين عن العرض!
وبنفس السياق، يتم الحديث عن المسامرة الفكرية التي تتيح لباحثين ومسرحيين التطرق لخصوصية الاشتغال على هذا النوع من المسرح، وكيف للأماكن الأخرى أن تزدهر بالمسرح، ليس بنوعية موضوعاتها وحسب؛ بل وقربها واستقطابها جمهوراً جديداً لم يعتد الذهاب إلى المسرح أصلاً. لذا نقب هؤلاء الباحثون هذه المرة عن “تحديات الأداء التمثيلي في المسرح الصحراوي”، قدمت فيه أوراق مهمة وثرية، وأسئلة مهمة أثيرت، خصوصاً لمن حضر دورات سابقة من الصحراوي، أو اطلع على أعمال سابقة بواسطة الوسائل الأخرى. وهناك أيضاً الإضافة التي انتبه لها الباحثون، بالإشارة إلى بعض الملاحظات المهمة في بيئاتهم، وكيف أن كل بيئة مولدة لفنون وخصوصية تتناقل بين أفراد المجتمع نفسه، حتى تصبح جزءاً مهماً من موروثهم وأعرافهم التي يختصون بها، ثم يصدّرونها كجزء من هويتهم بعد وقت.
وهذا النوع من العروض المسرحية في مكان غير مألوف في منطقة الخليج؛ يعطي أفكاراً ودوافع للمسرحيين في إعادة التفكير في تحجيمهم في صالات المسرح المحدودة، والتي لا تفي باحتياجات التدريب والعرض، مع الأخذ بالاعتبار أن تجربة الأماكن البديلة ليست جديدة، لكن تكريس مكان وبيئة محدديْن يحفز لخلق آفاق أخرى؛ مثل الأماكن والأفكار التي تولد قصصاً وأحداثاً من نسيج نفس المجتمع، وتخضع الطبيعة لمتطلبات العمل، كما توضع العناصر المسرحية في موقع قابل للتأويل حسب النسق. وكما وجدت الصحراء، نأمل أن يكون البحر وسواحله مكاناً مقترحاً لتقديم عروض مسرحية قادمة تهرب من سلطة وقواعد المكان المحددة المحكمة.