شويّخ من أرض البحرين

0
20

لم أكن أتوقع وأنا أدعى للمشاركة في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في مدينة جدة في بداية هذا الشهر أن أحظى بمفاجأة كبيرة عرضَت أمام عيني محطات كثيرة من شريط حياتي. فقد عُرض ضمن فعاليات المهرجان الفيلم الوثائقي «خالد الشيخ : بين أشواك السياسة والفن» الذي أنجزته مجموعة الثمانية بقيادة المخرج السعودي المتميز جمال كتبي. وأنا أشاهد الفيلم رجع بي الزمن إلى تلك المراهقة التي كنتها في سنتها الأولى بمدرسة المنامة الثانوية للبنات، تهديها صديقة – مهووسة إلى حد العشق الصوفي بصوت خالد الشيخ  – شريط كاسيت ولم يكن غير ألبوم «نعم نعم» بأغانيه الخالدة «يا محمدي يا محمدي» و«عطني وعد» و«وين أوديك»، ومن يومها أصبحت أغاني خالد الشيخ رفيقة تلك الفتاة المراهقة في النهار ونديمتها في الليل وأصبحتْ من كبار معجباته أو فانزاته بلغة وسائل التواصل الاجتماعي التي فرضت نفسها حتى على مجمع اللغة العربية المصري. 

هكذا عرفتُ أغاني خالد الشيخ في بداياتي، سمعته بقلبي وتتبعت ألبوماته ولم أدع أغنية منها تفلت مني، وكنت معجبة خاصة بالأغاني التي كتب أشعارها الشاعر الغنائي المتفرد علي الشرقاوي مثل «ضيعوك» و«جروح قلبي وتر» و«سافر في ارتفاع الصواري» وغيرها، فثنائيتهما كانت ناجحة ولعل كونهما ابنا بيئة واحدة قواسمها المشتركة كثيرة ساهم في ذلك، إضافة إلى نزعة للحداثة في كلمات الشرقاوي وألحان خالد على السواء. وأنا أتوافق مع رأي الدكتور حسن مدن حين كتب مرة بأن «أجمل كلمات أغاني خالد الشيخ هي من إبداع علي الشرقاوي». دون أن يقلل ذلك من جمالية القصائد التي كتبها له آخرون.

ولا زلت أذكر انخطافي حين سمعت أغنية «عيناك» أول مرة، كأنّه لم يكن يكفيني ولهي بأشعار نزار قباني حتى أسمعها بصوت خالد الشيخ. ذلك الوله الذي سماه أستاذي الدكتور صلاح فضل رحمه الله تهوّسًا في مقدمة كتابي عن نزار أضيفَ إليه تهوّسٌ آخر بصوت خالد فوا حرَّ قلباه! أغنية «عيناك» ذات السبع عشرة دقيقة أوصلت فن خالد الشيخ إلى العالم العربي كله. وانتبه المستمعون بمختلف أطيافهم إلى هذا الصوت المحمّل بالشجن والعُود الممتلئ ألحانا القادم من البحرين ليعلن عن نفسه رقما صعبا في تلحين وغناء القصيدة الفصيحة.  وإذا كان عبد الحليم حافظ بقارئة الفنجان ورسالة من تحت الماء ونجاة الصغيرة بأسألك الرحيلا و أيظن افتتحا الموجة الأولى من الشعر النزاري المغنى، فإن أغنية «عيناك» هي من أطلقت الموجة النزارية الثانية التي كبرت فأصبحت تسونامي بصوت وألحان المبدع كاظم الساهر فيما بعد وماجدة الرومي بدرجة أقل. كما برهنت على موهبة استثنائية لخالد في تلحين القصيدة العربية الفصيحة دون خشية من التجريب بل مع قصديّة واضحة في اكتشاف مساحات بكر، وقد لحّن الشعر الفصيح من القصيدة العمودية المخلصة للأوزان الخليلية إلى قصيدة النثر التي لا إيقاع ظاهري فيها إلا إيقاعها الداخلي. ومن شعر مالك بن الريب التميمي قبل أربعة عشر قرنا إلى أشعار صديق خالد ومجايله وأحد آباء قصيدة النثر قاسم حداد.

ما أن بدأت في إعداد وتقديم البرامج الثقافية حتى كنت على موعد مع خالد الشيخ، فاستضفته أول مرة سنة 2001 في برنامجي «صواري» وخالد بالمناسبة حصان رابح للمراهنة عليه في نجاح أي برنامج تلفزيوني فهو متكلم جيد بعكس كثير من المطربين الذين إن أخرجتهم من دائرة الصوت الجميل يغدون أشبه بالأميين  وكم عانيت في برامجي مع بعضهم ولا أعمّم. فهو مثقف صاحب مشروع يدرك تماما ما يريد أن يحققه. متدفق في حديثه عن فنه بعلم ومعرفة أكاديمية، سريع البديهة مشاكس في أحيان كثيرة ولاذع في نقده فقد كان يقول «عيبي لساني»  وهو ككل مبدع مجتهد يشعر باغتراب حين يرى اشتهار بعض الفنانات بل وحتى الفنانين لا يصلح حين نراهم على الشاشات سوى أن نقول «خفّضِ الصوت وعَلِّ الصورة». تحدّث يومها عن تلحينه لقصيدة مالك بن الريب وكيف أن جملة لحنية تراثية فرضت نفسها على لحنه حالت بينه وبين التصعيد اللحني الذي يفترض أن يترافق مع أبيات الشاعر الذي يرثي نفسه، وما زالت طروحات خالد الشيخ في تلك الحلقة راهنةً الآن بعد أكثر من عقدين إذ لا يزال صوت الكلمة هو الأعلى واللحن تابع لها يقول ما تقوله هي ولا استقلالية له خارج سطوة حضورها. ولعل هذا ما دفع خالد الشيخ إلى مغامرة التجريب، ولا زلنا نذكر  اشتراكه مع الشاعر قاسم حداد والفنان التشكيلي إبراهيم بو سعد في ثالوث يجمع الصورة والنص الشعري واللحن بعنوان «وجوه» وشاركهم أدونيس قراءاتٍ بصوته في تعالق فني لا يعطي أسبقية لفن على آخر بل هي ثلاثة أحصنة  تركض في بريّة الإبداع دون التفات إلى من سيسبق من، بل ولا تهتم حتى بأن تصل معا، أليست اللذة تكمن في الطريق نفسه لا في الوصول؟! ومن المؤسف أن تلك التجربة لم يُبْنَ عليها فجوّ الفن الراكد في عالمنا العربي أعاد الأحصنة إلى مربّعها الأول. وانتقل خالد الشيخ إلى آفاق جديدة يرتادها كانت عتبة أعلى تجاوزها حين لحن وأدى شعر المتصوف الأندلسي الكبير أبي الحسن الششتري، فغنى «شويخ من أرض مكناس» و«كلما كنت بقربي» و«يا مدير الراح»  وجعل من قصائد كانت لا تغنى إلا في تكايا الصوفية يتواجدون عليها مشاعة بين المستمعين يتمايلون طربا لسماعها بصوت خالد نفسه أو الكثيرين الذين استعاروها منه.

ويمكننا أن نعدّ أغاني خالد من قصائد صديقه المثقف والشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي إحدى محطاته المفصلية، فقد اجتمعت حول السويدي مجموعة متجانسة فكريا وإبداعيا إضافة إلى خالد الشيخ مثل مارسيل خليفة وطلال حيدر ضخت دما جديدا في جسد الأغنية الحداثية. ويمكننا أن نعتبر تلحين وتوزيع خالد لأوبيريت «عناقيد الضياء» مصالحة مع تمرده على والده باختياره للفن والغناء خط حياة بعيدا عن الدبلوماسية والوجاهة اللتين كان والده يريدهما له. رغم أن خالد حاول تلبية رغبة والده شيخ الدين سليل عائلة علماء منها استمدت اسمها « الشيخ». فدرس خالد العلوم السياسية والاقتصاد ثلاث سنوات في جامعة الكويت لكن صوت الفن كان أعلى  فاجتذبه إلى القاهرة ليدرس في الكونسرفاتوار ويتبع شغفه مما أحدث قطيعة مع والده رحمه. فجاءت أوبيريت «عناقيد الضياء» تصل ما انقطع وكأنها اعتذار غير مباشر من خالد لوالده على ما أحس به أبوه من خيبة ظن حين اختار ابنه الفن على خطّ العائلة المتوارث. والأوبيريت عمل ضخم يروي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بلسان الشاعر السعودي عبد الرحمن عشماوي اشترك فيه نخبة من كبار الفنانين العرب مثل لطفي بوشناق وعلي الحجار ومحمد عساف وحسين الجسمي بمرافقة أوركسترا ألمانية مكونة من سبعين عازفا،وبرعاية من حاكم الشارقة سمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي بمناسبة حتفالية الإمارة بتتويجها عاصمة الثقافة الإسلامية. وفي آخر لقاء لي بخالد الشيخ في برنامجي «بروين شو» قبل سنتين بدا شديد الاعتزاز  بأمرين أولهما عمله في هذه الأوبيريت، وثانيهما بابنته سماوة التي شاركتنا الحلقة حيث سلكت درب الفن مثل أبيها مع حرصه الشديد أن تأخذ مسارا مختلفا عنه حتى لا تكون صورة منه وهي بإمكانها أن تكون أصلا. ويومها نسي عوده فكانت مفاجأة جميلة حين جلب له صديقه  شريف منير عود الموسيقار الكبير عمار الشريعي ليعزف عليه. 

بقدر ما أن مسيرة «خالد الشيخ» مميزة ومتفردة إلا أنها مظلومة لم تأخذ حقها الكامل فالفنان المثقف الذي يدرك تماما ما يفعل عملة نادرة كان يفترض أن تشمله رعاية مؤسسية أو رسمية عوض أن يترك لقدره، في زمن يزداد تفاهة يفضل فيه المسؤولون عن الفن الفستان القصير على الفكر المستنير. وحسنا فعل مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي حين كرّم خالد الشيخ بعرض فيلم مجموعة ثمانية عنه، فكان عرسا بحرينيا أفاض العيون بالدمع عندما قال خالد إنه يتمنى أن يفتح قبر أبيه ويضمه، ويقيني أن والده رحمه الله كان ليعتز بابن لا تذكر البحرين إلا ويذكر ابراهيم العريض ومحمد جابر الأنصاري وقاسم حداد وضلع المربع الرابع خالد الشيخ.