مقدّمات العدوان الصهيوني على غزّة وتداعياته

0
113

تُرّوج وسائل الإعلام الغربية، والدوائر الحاكمة في الدول الأوروبية والولايات المتحدة وسواها، لفكرة أنه لولا العملية غير المسبوقة التي قامت بها حركة “حماس” في ما يطلق عليه “غلاف غزّة” في السابع من أكتوبر الماضي، لما قام العدو الصهيوني بهجومه الدموي على القطاع، والذي أودى، حتى كتابة هذه السطور، بأكثر من عشرين ألف شهيد، فضلاً عن مئات الآلاف من الجرحى، وتدمير المنازل على ساكنيها، واستهداف المستشفيات والمدارس التي تحوّلت إلى مراكز إيواء، وللأسف الشديد فإن بعض الإعلام العربي وبعض الأبواق تُرّوج لهذه السردية، التي يتناسى دعاتها أن الاعتداءات، بل والحروب، الإسرائيلية على القطاع لم تتوقف خلال عقود، كما أن إسرائيل لم تتوقف عن استهداف المدنيين في الضفة الغربية، سواء على أيدي جيشها النظامي، أو من خلال عصابات الميليشيات التي زرعها الكيان في أراضي الضفة وقطّعت أوصالها، بصورة جعلت من هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة تشمل الضفة والقطاع أقرب إلى المستحيل، خاصة في ظل الخلل الكبير في ميزان القوى في المنطقة لصالح إسرائيل وحمّاتها في الغرب.

هذا لا ينفي أن عملية السابع من أكتوبر 2023 النوعية، والأولى من نوعها في تاريخ الصراع الفلسطيني – الصهيوني، قد هزّت أركان دولة الاحتلال وأظهرت هشاشتها، وأكذوبة جيشها “الذي لا يُقهر” كما تدعي، فها هو لولا الجسور الجوية من واشنطن التي تمدّه بالعتاد من أحدث الأسلحة وأكثرها فتكاً، لكان قد انهار في حربه على غزّة، أمام إرادة الشعب الفلسطيني هناك ومقاومته، ورغم الوحشية التي يمارسها في القطاع في انتقام مسعور، ما زال عاجزاً عن تحقيق ما وضعه من أهداف لعدوانه، رغم مرور قرابة ثلاثة شهور.

التهجير مشروع صهيوني قديم

 للزاعمين بأن “حماس” هي من تسبب في الحرب الجارية الحالية، سنقف هنا عند موضوع تهجير سكان قطاع غزّة من مصر إلى شبه جزيرة سيناء، وهو الهدف الذي أفصح عنه قادة العدو في بداية حربهم على القطاع، لنشير إلى أن مشروعاً شريراً مثل هذا يمتد عمره لأكثر منخمسة عقود، وهو ما أفصحت عنه وثيقة بريطانية رفعت عنها السرية مؤخراً، ونشر موقع “بي.بي.سي” تقريراً وافياً عنها، وتشير إلى أن إسرائيل وضعت خطة سرية قبل 52 عاما لترحيل الآلاف من فلسطينيي غزّة إلى شمال سيناء، بعد احتلال الجيش الإسرائيلي للقطاع والضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان السورية، في حرب يونيو/حزيران عام 1967، حيث أصبح القطاع منطلق كقاومة مسلحة شجاعة وجريئة ضد الاحتلال.

وحسب تقديرات البريطانيين، فإنه عندما احتلت إسرائيل غزّة، كان في القطاع 200 ألف لاجىء، من مناطق فلسطين الأخرى، ترعاهم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” و150 ألفا آخرين هم سكان القطاع الأصليون الفلسطينيون، حيث رصدت السفارة البريطانية في تل أبيب تحركات إسرائيلية لتهجير آلاف الفلسطينيين إلى العريش التي تقع شمالي شبه جزيرة سيناء المصرية، وتبعد قرابة 54 كليومترا عن حدود غزة مع مصر، بل بلغ الأمر أن دولة الاحتلال أسرّت للبريطانيين، في سبتمبر/أيلول 1971، بوجود خطة سرية لترحيل الفلسطينيين من غزة إلى مناطق أخرى على رأسها العريش المصرية. وأبلغ وزير النقل والاتصالات الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريس (زعيم حزب العمل ووزير الدفاع والخارجية ورئيس الحكومة ورئيس الدولة في إسرائيل لاحقاً) المستشار السياسي للسفارة البريطانية في تل أبيب بأنه “حان الوقت لإسرائيل كي تفعل أكثر في قطاع غزّة وأقل في الضفة الغربية“.

وفي تقرير عن اللقاء، قالت السفارة البريطانية إن بيريس، الذي كان مسؤولاً عن التعامل مع الأراضي المحتلة، أكّد “أنه رغم أن الحكومة (الإسرائيلية) لن تعلن رسميا السياسة الجديدة، ولن تنشر توصيات اللجنة الوزارية التي تراجع الموقف، فإن هناك الآن اتفاقا في مجلس الوزراء على متابعة تدابير بعيدة المدى للتعامل بشكل أكثر فعالية مع مشكلات غزة، و في إطار ذلك سيتم إعادة توطين حوالى ثلث سكان المخيمات في أماكن أخرى في القطاع أو خارجه”. وأكّد اعتقاد إسرائيل بأن “هناك حاجة ربما إلى خفض إجمالي عدد السكان بحوالى 100 ألف شخص”، وبعدها أبلغ الجيش الإسرائيلي، في لقاء رسمي، عددا من الملحقين العسكريين الأجانب بتفاصيل إضافية عن خطة ترحيل الفلسطينيين من غزّة.

وحسب التقرير المشار إليه فإن إدارة الشرق الأدنى  في الخارجية البريطانية، وإن لم تظهر موقفاً معلناً معارضاً للخطة، شأن الغرب حتى اللحظة، لكنها حذّرت من أن قادة دولة الاحتلال يقللون من قيمة حجم الغضب الذي تثيره هذه العقيدة الإسرائيلية القائمة على خلق حقائق على الأرض، في العالم العربي والأمم المتحدة، وجرى نقاش، يومها، في وزارة الخارجية بشأن مدى اتفاق السياسة الإسرائيلية مع معاهدة جنيف الرابعة التي تحدد مسؤوليات دول الاحتلال. فوفق المادة 39 من المعاهدة، فإنه يُحظر النقل القسري الفردي أو الجماعي، وكذلك عملية ترحيل الأشخاص من أرض محتلة إلى أرض سلطة الاحتلال أو أرض أي دولة أخرى، سواء تخضع للاحتلال أم لا، وبغض النظر عن الدافع وراء ذلك.

هذه الوثيقة أبلغ ردّ على من يُحمّلون المقاومة في قطاع غزّة مسؤولية العدوان الصهيوني الهمجي على القطاع، وتكشف أحد مقدّمات وأيضاً أحد أهداف هذا العدوان. وما يتعين التركيز عليه اليوم، هي الأسباب التي جعلت العدو الصهيوني يتمادى في همجيته في غزّة وفي الضفة الغربية وفي القدس،  فنحن شهود على تغوّل العدو الصهيوني بعد خطوات التطبيع معه، والتي اشتركت فيها البحرين للأسف،  ما أدى إلى المزيد من تهميش القضية الفلسطينية، وما شجع على التطبيع مع العدو تصدّع الموقف الرسمي الفلسطيني خاصة بعد شرك “أوسلو”، وافتقار السلطة الفلسطينية إلى استراتيجية متكاملة وقابلة للتطبيق، لإدارة الصراع.

وسبق هذا التطبيع ما آل إليه الوضع العربي برمته خلال العقدين الماضيين، بدءاً من الاحتلال الأمريكي للعراق، وما تلى أحداث العام 2011 في غير بلد عربي، كسوريا وليبيا واليمن وسواها، حيث اندلعت حروب وفتن، وانهارت الدولة المركزية في عدّة بلدان، التي أصبحت مقسّمة، وتخضع الكثير من أراضيها لسيطرة ميليشيلت متطرفة.

ترافق كل ذلك مع صعود التيارات السياسية والعسكرية الإسرائيلية، اليمينية والعنصرية المتطرفة، والتي أصبحت تدير دولة الاحتلال، وفق سياسسات هي الأشدّ عنصرية وغطرسة وغروراً في تاريخ الكيان، التي لا تخفي أجندتها في احتلال كامل الضفة الغربية والقدّس وتهويدها وضمّها إلى دولة الاحتلال، ويجري كل ذلك على خلفية وضع دولي يشهد صعود الموجات اليمينية المتطرفة في غير بلد أوروبي، وانحدار العالم إلى المزيد من غطرسة الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا، وانفضاح ادعاءاتها بحقوق الإنسان، والدفع بالعالم مجدداً نحو حرب باردة شرسة، بإشعال الحرب الأوكرانية، والسعي لاستنزاف قدرات روسياً، كنوع من من الرد على تصدّع نظام القطب الدولي الواحد، وتبلوّر عالم متعدد الأقطاب.

تداعيات العدوان

بعد مرور نحو ثلاثة شهورعلى العدوان الصهيوني على غزّة، وكذلك التصعيد الأمني والعسكري الصهيوني في الضفة الغربية، ما زالت المقاومة الفلسطينية صامدة، وقادرة على منازلة العدو وتكبيده خسائر فادحة في الأرواح والمعدّات، باعتراف قادة الكيان رغم سعيهم للتقليل من أعداد القتلى والجرحى من ضباطهم وجنودهم، وفي نوعٍ من المكابرة يستمر العدو في حربه ويزداد فيها شراسة، شعوراً منه بان وقفها سيعني هزيمة معنوية كبرى يُمنى بها، تهزّ أركان حكومة نتنياهو المتطرفة وتُطيح بها، على خلفية الاستياء داخل الكيان من إدارته للحرب، وتفريطه في أرواح الرهائن الإسرائيليين لدى فصائل المقاومة، ومن أجل ذلك فإن اليمين الصهيوني المتطرف مستعد للمجازفة في استمرار حرب عدوانية رغم كلفتها الباهظة والمدمرة، ورغم ما هي عليه من همجية ووحشية، دافعاً المنطقة كلها إلى أتون مواجهة شاملة ستشعل عدة حروب، وستترتب عليها تبعات خطيرة ومدمرة.

لقد فضحت هذه الحرب، ربما أكثر من أي حرب سابقة، زيف ما تدعي به واشنطن وحلفاؤها من مبادئ القانون الدولي وحماية المدنيين، وحريات التعبير والسلام الدولي، وحتى (حل الدولتين)، وعطلت واشنطن أكثر من مرة  بالفيتو للمطالبة بوقف الحرب من قبل مجلس الأمن الدولي، رغم إرادة الغالبية الساحقة من أعضائه، وإرادة غالبية الدول العضوة في هيئة الأمم المتحدة، وإرادة كل شعوب العالم، ونداءات مؤسسات ومنظمات قانونية وإنسانية أممية.

شعب فلسطين لن يقهر

إن الرهان الصهيوني على القضاء على المقاومة في غزّة وهم كبير، فالأمر لا يكمن في قوّة هذا التنظيم أو ذاك، وفي مسيرة الكفاح الفلسطيني تعاقبت أجيال من المكافحين من أجل الحرية والاستقلال واستعادة الحق الفلسطيني المسلوب، من اتجاهات مختلفة، قومية ويسارية وإسلامية، وشخصيات ورموز وطنية ودينية مستقلة، مسلمة ومسيحية، ورغم فداحة ما قدّمه الفلسطينيون من تضحيات أمام ازدياد بطش الكيان، فإن إرادتهم لم تهن ولن تهون، فما من قضية عادلة لأي شعب إلا وكللت بالنصر مهما طال الزمن وعظمت التضحيات، ولنا في نضال شعوب كثيرة القدوة والبرهان، مثل الشعب الفيتنامي بزعامة هوشي منه، وشعب جنوب إفريقيا بزعامة الرمز الأممي نيلسون مانديلا زعيم المؤتمر الوطني الإفريقي الذي قاد نضال الشعب لهزيمة العنصرية وانتصر، رغم أن دول الغرب صنفته لفترة طويلة كتنظيم إرهابي، كما تفعل الآن مع المقاومة الفلسطينية، وما زلنا نذكر مقولة مانديلا بعد انتصار شعبه: “نصرنا ناقص قبل أن تتحرر فلسطين”.

وهاهم الفلسطينيون يعطون البرهان على إرادتهم الفولاذية، فمقاتلوهم يستشهدون لكن القضية لا ولن تموت، بل أن هؤلاء الشهداء يلهمون الأجيال بمواصلة الكفاح، وحسبنا هنا أن نشير إلى نموذج عهد التميمي، ابنة الاثنين وعشرين عاماً، التي استحوذت على الاهتمام الشعبي والإعلامي بعد أن ظهرت لأول مرة في مقطع فيديو تهدد جندياً إسرائيلياً باللكم، وهي في الحادية عشرة من عمرها، وهي في الـ14 من عمرها انتشر مقطع فيديو لها وهي تعض يد جندي إسرائيلي كان قد احتجز شقيقها، وقضت عهد التميمي عندما كانت في السابعة عشرة ثمانية أشهر في السجن بعد صدور حكم عليها لصفع جندي إسرائيلي وركله، وقالت عهد آنذاك في جلسة المحكمة إنها صاحت في الجنود الاسرائيليين لأنها رأتهم يطلقون الرصاص المطاطي على ابن عمها محمد في الرأس في اليوم ذاته، كما أعادت قوات الاحتلال اعتقالها في نوفمبر الماضي بسبب منشور على موقع إنستغرام، ولنا أن نتخيل عشرات الألاف من شبان وشابات، من فتيان وصبايا فلسطين، في غزّة والضفة والقدس وفي الشتات، الذين يحملون إرادة التحدي والصمود نفسها التي أظهرتها عهد التميمي، وسيواصلون المسيرة راهناً ومستقبلاً.