“يهوديان – ثلاثة آراء!” مثل روسي قديم، أصبح ينطبق بشدة في السنوات الأخيرة بعد تفاقم الانقسامات في إسرائيل، كما في الشتات اليهودي. وتزداد تفاقما بعد السابع من أكتوبر 2023.
كانت احتفالات الإسرائيليين بيوم الغفران في سبتمبر 2023 ليست كالمعتاد. انقسموا بين علمانيين أدوا شعائرهم رجالا ونساءً بشكل مختلط، ومتشددين دينيين الذين دعوا إلى الفصل بين الجنسين كسرا للتقاليد الدارجة لسنين. صعَّد الدينيون اليمينيون اعتداءاتهم لدرجة أنْ صرح يائير لابيد، زعيم المعارضة العلمانية وقائد حزب “هناك مستقبل” قائلا بأن الناشطين الدينيين “قرروا جلب الحرب إلينا”. وقد شكلت هذه الأحداث علامة بارزة على ارتقاء الخلافات السياسية إلى مستوىً أصبح يهدد التماسك الاجتماعي جدياً. ويؤكد هذا قول الرئيس يتسحاق هرتسوغ المعروف باعتداله بأن هذه الانقسامات الاجتماعية تشكل “خطرا حقيقيا على المجتمع الإسرائيلي وأمن دولة إسرائيل”.
مجموعة روش اليهودية، التي نظمت استفزازات يوم الغفران هي جزء من عدد متزايد من الحركات اليمينية. العديد منها له جذور في المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، والتي انتقل أعضاؤها بشكل جماعي إلى المدن العلمانية، أو إلى تلك التي تضم أقليات عربية كبيرة، مع نية معلنة لجعل المجتمع أكثر يهودية.
أصبح واضحا أنه بعد تمكن اليمين الديني المتطرف سياسيا بتشكيل إئتلاف حكومي بقيادة نتنياهو يسعى هؤلاء لفرض سطوتهم على كل مناحي حياة المجتمع. ولتقوية مواقعه وتمسكه بالسلطة وزع نتنياهو المنافع على حلفائه بما يعاظم اتهامه بالفساد، وأعطى لرجال الدين صلاحيات وامتيازات واسعة، بما في ذلك إعفاء طلبة المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية مع تمتعهم بكافة امتيازات المواطنة الأخرى.
هذه الأخيرة شكلت ظاهرة، هي الأخرى تهدد مستقبل إسرائيل. 21% من طلبة المدارس يتجهون بعد تخرجهم إلى الخدمة الدينية، 23% هم من فلسطينيي الداخل، الذين لن تجد غالبيتهم أمامها غير المنغلقات السياسة والاقتصاد، ناهيك عن كثير من الحقوق الأساسية.
لتعزيز مواقعه سعى الإئتلاف اليميني المتطرف إلى مصادرة صلاحيات الكنيست (البرلمان) في مقابل زيادة صلاحيات الحكومة. ولأن إسرائيل دولة بلا دستور فقد كانت المحكمة العليا فيصلا لرد القرارات التي تشكل خرقا للنظم والقوانين. وعليه استهدفت الحكومة المحكمة العليا عن طريق البرلمان نفسه. لكن ذلك أثار صراعاً حاداً في البرلمان كما في المجتمع. وصف العلمانيون ذلك بالإنقلاب الدستوري. وخلال العام الماضي شهدت إسرائيل مظاهرات احتجاجية تتعاظم مع كل مرة.
تطورت حملة الاستقطاب إلى نزاع أوسع وأكثر وجودية حول دور اليهودية في الحياة العامة للدولة اليهودية. بالنسبة للإسرائيليين العلمانيين، المحكمة هي الضامن لحقوقهم. دعا المتظاهرون إلى إسقاط حكومة نتنياهو وائتلاف اليمين الديني. قسمت هذه الخلافات المجتمع إلى نصفين متساويين تقريبا.
وفجأة .. طوفان الأقصى ومفاجآته! أصيب المجتمع بالذهول وحالة انعدام الوزن. الإئتلاف الحاكم لم يفوِّت حتى هذا الوضع لتثبيت مواقعه السياسية وأيديولوجيته الرجعية العنصرية. انتشرت الروايات عن ذبح حماس للأطفال واغتصاب وقتل النساء وحرق الجثث المتفحمة وقتل مئات من المشاركين في حفل ترفيهي تلك الليلة. أثبتت الحقائق فيما بعد أن بعض هذه الأحداث لم يقع أصلا، وبعضها الآخر إنما ارتكبها الجيش الإسرائيلي نفسه ربما بسبب الارتباك، حسبما تكشفه الصحافة الإسرائيلية هذه الأيام. واتضح أن الائتلاف الحاكم إذ روَّج لهذه الروايات إنما لتبرير عجزه العسكري والأمني وتبرير جرائم الإبادة الجماعية المبيتة أصلا ضد فلسطينيي غزة والضفة المحتلة، والنابعة من طبيعة أيديولوجيتهم العنصرية الاستعمارية.
بعيد 7 أكتوبر انتشر في كل الشوارع والمرافق شعار واحد بالعبرية معناه “معًا سننتصر”. والتف حوله الجميع، لكن جاذبيته كانت تعود إلى غموضه تحديداً، مما سمح لكل مشاهد تفسير كلمة “النصر” بشكل مختلف. ربما الجميع أجمع على أن “النصر” لن يتحقق إلا بإطلاق العنان للعنف المميت في غزة، وإرسال رسالة ردع إلى جميع الخصوم فحواها أنْ أنظروا إلى غزة واتعظوا. “النصر” بالنسبة لأغلب الإسرائيليين اليهود هو الإبادة الكاملة لحماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني. ولتحقيق ذلك !! يعتبر مقتل آلاف المدنيين، والتهجير الجماعي للسكان، والتدمير الواسع النطاق للمواقع المدنية، “أضراراً جانبية” مبررة.
لكن ماذا بعد؟ تدمير غزة يعني خلق واقعاً جديداً فيها، بنظام جديد يضمن وضعها تحت السيطرة الإسرائيلية لاحقاً. هنا سينقسم المجتمع حول تفسير “النصر” وفقا للإنتماء السياسي.
اليمين الديني يرى “النصر” في استكمال نكبة 1948 مرة وإلى الأبد بإحلال اليهود محل الفلسطينيين في جميع أنحاء أرض إسرائيل التوراتية. اليمين السياسي الإسرائيلي والوسط يعني “النصر” له حصر الفلسطينيين في مساحة جغرافية أصغر وإيجاد إدارة مطواعة، مع انتهاج سياسة الدخول بين وقت وآخر “لقص العشب”. بعض الوسط والليبراليين اليهود عموما لا يملكون موقفاً محدداً سوى الموقف العام بتدمير حماس عن طريق العنف الشديد.
تتبقى (ولا تبقى كما سنرى) شريحة صغيرة يستلزم “النصر” بالنسبة لها تحوّلاً شاملاً كاملاً في النموذج، وتحويل إسرائيل إلى دولة ديمقراطية واحدة من النهر إلى البحر يمكن لليهود والفلسطينيين أن يعيشوا فيها معا على أساس المواطنة المتساوية. لكن الأعداد المطلقة والوزن النسبي لهؤلاء في تناقص مستمر. في السنوات الأخيرة أخذ الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي يعيد الإصفاف بالشكل التالي : في الجانب الإسرائيلي دعاة هذا الاتجاه تضيق بهم الحياة أكثر فأكثر ويلجأون إلى الخارج ليتحدوا مع غالبية يهود العالم التي يشاركونها الرأي. أما ذلك القسم من يهود العالم الذي يأتي للإستيطان في الأراضي الفلسطينية على حساب أصحاب الأرض الأصليين، فهم من حملة الأيديولوجية الدينية – القومية الصهيونية المتطرفة لأبعد الحدود.
إعادة الاصطفاف المجتمعي هذه تذكر بظاهرة “الانتقاء الطبيعي”. وبنتيجتها تغرق إسرائيل في التطرف اليميني. وما من أحد هناك يستطيع أو يعرف كيف يمكن عكس هذا الاتجاه. بل أنه قد ينحدر إلى الأسوأ – إلى تطبيق سيناريو شمشون، الذي أزاح الأعمدة فهدم المعبد على نفسه وعلى الفلسطينيين الذين يكرههم!! (حسبما جاء في الكتاب المقدس، العهد القديم، سفر القضاة).
وفي الحقيقة لحد الآن تبدو إسرائيل عاجزة عن تحقيق أي نصر. بل تخسر. لقد فشلت مرات في السابق وهي تواجه غزة واحدة. وخرج جنودها تلاحقهم حجارة الشعب الأعزل. والآن قررت العودة بحماقة إلى غزتين: سكان متحدون ومتمكنون فوق الأرض، وعشرات الآلاف من المقاتلين والذين يمتلكون مهارات قتالية عالية كما يمتلكون السلاح ومصانع السلاح والذخيرة تحت الأرض. وتواجه ليس غزة وحدها. فحسب شهادة وزير الدفاع يوآف غالانت في جلسة استماع في الكنيست بأن إسرائيل “في حرب متعددة الساحات، منذ البداية، تعرضنا للهجوم من سبع جبهات – غزة ولبنان وسوريا وإسرائيل والعراق واليمن وإيران”.
وتخسر اقتصاديا ونفسيا وأخلاقيا. وتخسر العالم، بما فيهم الغالبية العظمى من يهود العالم (الشتات). ففي مقابل 7 ملايين يهودي في إسرائيل يعيش في العالم قرابة 7 ملايين يهودي آخرين. وغالبيتهم لا يؤيدون بقاء إسرائيل كدولة دينية عنصرية. إذن، فالمجتمع اليهودي في إسرائيل وخارجها منقسم بالتساوي تقريبا. أضف إلى ذلك أن المجتمع الإسرائيلي نفسه منقسم على نفسه بالتساوي تقريبا ( كما أسلفنا أعلاه). ويستمر هذا الفرز ليس في صالح مستقبل الدولة اليهودية.
بعد بدء الحرب على غزة مئات من المتظاهرين اليهود من أتباع منظمة “Not in Our Name” (ليس باسمنا) حاصروا محطة القطارات الرئيسية في نيويورك، داعين إلى وقف الحرب فورا. وعند تمثال الحرية في نيويورك رفع يهود يافطات بعبارة ” الفلسطينيون يجب أن يكونوا أحرارا”. ومنذ 7 أكتوبر اتسعت العضوية في مجموعة (إذا لم يكن الآن) If Not Now، بشكل يلفت الأنظار. وهي جماعة يهودية أمريكية تنتقد إسرائيل. ووفقًا لمتحدث باسمها بلغت العضوية 43 ألف شخص في 4 أكتوبر، أما بعد شهرين فوصلت إلى 350 ألفا. وقادت مجموعات يهودية حملات احتجاجية واسعة في الولايات المتحدة نفسها وفي أوروبا وأمريكا اللاتينية وبلدان أخرى في العالم.
أما جماعة الحريديم التي ترفض الصهيونية منذ زمن بعيد، فخرجوا في مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين. وهؤلاء يعتقدون بأن الدولة الصهيونية تتاجر بالدين وتستخدم التوراة كأداة سياسية لشرعنة احتلال الأراضي.
لقد خلق هذا الوضع لدى اليهود في بقية أصقاع العالم (وحتى المتسامحين منهم في السابق مع الانتهاكات الدائمة لحقوق الفلسطينيين) تساؤلا عما إذا كان جيدا بالنسبة ليهود العالم وجود دولة بطبيعتها تولِّد العنف باستمرار؟!! وعندما تعلن إسرائيل أنها دولة كل يهود العالم فإنها تجعل منهم رهائن لسياساتها وممارساتها. نعم، يوجد بين هؤلاء من يؤيد إسرائيل بلا تحفظ، لكن الأكثرية تدين أعمالها. إنما لا هؤلاء ولا أؤلئك لا يؤثرون البتة في سياساتها وممارساتها.
قد يبدو الأمر عجيباً حقاً. إذا كان كل هذا الإنكسار يحدث في الداخل الإسرائيلي، وكل هذا الإنحسار يحدث من حول إسرائيل – اتساع احتجاج وإدانة الرأي العام العالمي وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أدانتها بأغلبية 153 صوتاً، وأخذاً بوصية المناضل نيلسون مانديلا، القائل “إن فلسطين كانت أعظم قضية أخلاقية في عصرنا”، جرجرت جمهورية جنوب أفريقيا إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية، وانضمام عدد من الدول المحترمة السمعة إلى الدعوى المرفوعة التي ينتظر العالم صدور الحكم بشأنها، أو على الأقل طلبها العاجل لمجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة بوقف الحرب .. فما الذي يجعل الولايات المتحدة الأمريكية تتميز بين الدول الإمبريالية بكبر دعمها الشامل لإسرائيل بكل ما استطاعت من قوتها وقواتها وتكنولوجياتها ودبلوماسيتها وتخالفاتها وعلاقاتها الدولية؟
سببان. الأول، أن الدولتين من ذات طبيعة التكوين التاريخي والأيديولوجي. في أمريكا كان الفهم السائد بين المستوطنين البيض الذين اعتبروا السكان الأصليين والسود والمورمين وغيرهم أعداء للحضارة المسيحية البيضاء التي كانوا يبنونها، وأن أطفالهم إذا كبروا سيصبحون “غزوًا” لتلك الحضارة. ألا ما أشبه الليلة بالبارحة!
الثاني. هو دور المسيحية الصهيونية (تعرض لها رفيقنا الراحل محمد جابر الصباح في أكثر من مقالة له). لفت مراقبون الأنظار إلى أمر مهم. في الفترة التي كان نتنياهو يمثل إسرائيل في الأمم المتحدة ويعيش في نيويورك، كان يقضي معظم أوقاته في مناطق جنوب أمريكا التي يسكنها القليل من اليهود. كثيرون تساءلوا عن ما الذي يفعله هناك. كان يقوم بعمل هام جدا في توطيد العلاقات مع معتنقي المسيحية الصهيونية. فهؤلاء يؤمنون كعقيدة دينية بأن إسرائيل يجب أن تبقى دولة لليهود فحسب، لأن مجيئ اليهود إلى الأرض المقدسة سيسرع من قيام المسيح، وسيكون ذلك حدثا عظيما للمسيحيين. هذه الفكرة وُجدت في أوساط البروتستانت الناطقين بالإنجليزية منذ القرن 17. وفي القرن 19 اكتسبت طابعا سياسيا. في الولايات المتحدة الأمريكية تتأطر المسيحية الصهيونية في حركة سياسية تحمل إسم مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل (Christians United for Israel)، والتي تؤكد بأن أنصارها يعدًّون 50 مليوناً. قارنوا هذا بعدد اليهود في مختلف أنحاء العالم الذي يبلغ 14 – 15 مليون!!
المسيحيون – الصهاينة نشطون جدا، وهم يشكلون جزءاً وازناً من الناخبين، ليس في الولايات المتحدة فقط، بل وفي بلدان أخرى كالبرازيل مثلا. وعندما افتتح الرئيس ترامب السفارة الأمريكية في القدس كان الخطباء في هذه الفعالية رجال دين من هذه الحركة المسيحية بالذات وليسوا يهوداً. إن أي رئيس، وكثير من السياسيين في الولايات المتحدة ودول الغرب ودول أخرى يضعون لضغوطات المسيحة – الصهيونية وأدواتها حسابات جدية، خاصة فيما يتعلق بالانتخابات والمصالح الكبرى.
مع ذلك، يعرف الجميع أن المنطقة جالسة على برميل بارود، إنْ انفجر تطايرت نيرانه في كل العالم. وليس لحماقة أحد أن تدفع بهذا الاتجاه. ولا حل يمكن أن تجمع عليه إرادة العالم إلا بوقف الحرب، ومن ثم إحقاق حق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على أرضه.