حينما تجتمع مفردتا «فلسطين» و«الشعر» سويّة، ترِد إلى الذهن أسماء كثير من الشعراء الفلسطينيين سواء من الرواد أمثال عبد الرحيم محمود وإبراهيم طوقان أو من الذين اشتهروا في بدياتهم بشعراء المقاومة الفلسطينية ورباعيّهم الأشهر محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد ومعين بسيسو. ولكن يغيب بغير قصد حينا وبقصد حينا آخر اسم أحد كبار الشعراء الفلسطنيين الذين تركوا بصمتهم في الأدب الحديث شعرا ونثرا، ف«مريد البرغوثي» لم يصنف مع شعراء المقاومة لأن شعره لم يكن مباشرا تسمع فيه أزيز الطائرات وقعقعة السلاح، بل كان يعتمد على ما كان يسميه بتبريد اللغة. مستهدفا بشعره دائرة أوسع ممن يرون أن على الشاعر الفلسطيني أن يكون الناطق الرسمي باسم القضية وأن تكون قصائده مناشير سياسية وبيانات شجب وتنديد.
والمفارقة أن زمن السوشيال ميديا أعاد تداول اسم «مريد البرغوثي» بكثرة بطريقة غير مباشرة نتيجة تداول اسم ابنه الشاعر تميم وحضوره في وسائل التواصل. فعرف متابعو تميم أن له أبا شاعرا يدعى مريد وأمّا روائية تدعى رضوى عاشور. وظاهرة الأسر الأدبية جديرة بالدراسة، ففي الدرس الأدبي الغربي هناك اهتمام بها فقد صدرت كتب مثلا عن الأخوات برونتي، إلا أننا نفتقر إلى ذلك في الدراسات العربية رغم وجود عوائل كثيرة أنجبت أدباء تربط بينهم صلة القرابة اللصيقة أبوية كانت أم أخوية مثل عائلة تيمور في مصر والمعالفة واليازجيين في لبنان.
أول تواصل لي مع «مريد البرغوثي» كان سنة 1997 وهي السنة التي حصل فيها على جائزة نجيب محفوظ للآداب على كتابه ذائع الصيت «رأيت رام الله» الذي ترجمته فيما بعد إلى الإنجليزية الروائية أهداف سويف وكتب له المفكر إدوارد سعيد مقدمةً رائعة. وكنت حينها على وشك إنهاء رسالة الماجستير في القاهرة بإشراف أستاذي الدكتور صلاح فضل الذي كان سبب تعريفي بمريد البرغوثي لتهنئته بالجائزة بحكم علاقة صلاح فضل برضوى عاشور. ولكن هيبة طالبة الدراسات العليا والمذيعة المبتدئة في تلفزيون البحرين لم يسمحا لي بأكثر من مباركته على نيل الجائزة.
تعرفت على الروائية المصرية صاحبة ثلاثية غرناطة والطنطورية رضوى عاشور شخصيا قبل زوجها مريد بسنوات فقد استضفتها في بداية الألفية الثانية في أحد برامجي وحدثت لي معها قصة محرجة طريفة رويتها في مقالي عنها «أخف من رضوى» في القدس العربي بالتفصيل، عرفت من خلالها من أي معدن من النساء صيغت هذه الكبيرة المتواضعة، وتحدثنا في الكواليس عن زوجها مريد وابنها تميم وقصة هذا الحب الكبير الذي لم يحل دون اشتعاله اختلاف الجنسية ولا تفاوت الوضع الاجتماعي ولا سبع عشرة سنة كاملة من منع مريد من دخول مصر لموقفه من زيارة الرئيس أنور السادات للبلد المحتل لأرض الشاعر. وكأنّ قدر مريد أن تغلق في وجهه أبواب العودة كلّما خرج من بلد يعدّه وطنا مثلما خرج من رام الله سنة 1967 ولم يستطع العودة ليراها إلا بعد ثلاثين سنة.
بعد اثني عشر من لقائي الشخصي بمريد البرغوثي أصبحت تلك االفتاة التي تواصل دراساتها العليا في النقد في القاهرة وتتلمس خطواتها في الإعلام المرئي، تقدم برنامجا ثقافيا ناجحا على تلفزيون دبي بعنوان «نلتقي مع بروين» استمر خمس عشرة سنة وشكّل أرشيفا ثقافيا يعدّ الآن من مراجع الدراسات الأدبية للباحثين. ففي 2009 واتت الفرصة لحوار تلفزيوني مع الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، حاولت فيه في قرابة ثمانين دقيقة أن أضيء ما استطعت على حياته وتجربة الأدبية ومشروعه الشعري، فتوسعت مروحة الحوار من حبه لرضوى وتجربة ابنه تميم إلى محاور متعددة لم يغب عنها محمود درويش ولا إدوارد سعيد ولا رأيه في الشعرية الجديدة وتأثير المكان. وكانت فرصة في الكواليس للتعرف على شخصية مريد الحقيقية، فأخشى ما أخشاه في لقاءاتي نرجسية الشعراءالطاغية التي تلامس حدود التكبر والصلافة حتى تدفعني لترديد المثل العربي القديم «تسمع بالمعَيْدي خيرٌ من أن تراه». ولكني فوجئت بحياء مريد حياءً يقارب الخجل، بل شعرت أنه محرج حين أبديت إعجابي بتجربته الشعرية وأثنيت كثيرا على كتابه «رأيت رام الله» وكتابه «ولدت هنا .. ولدت هناك» ولم يكن مضى عليه سوى أشهر قليلة من صدوره. ولاحظت أنه قليل الحديث يدور في رأسه كلام كثير من غير أن ينقله من عالم الأفكار إلى أذن سامعه، وهذا ما يلاحظه قارئه أيضا في كتابيه عن سيرته الذاتية إذ يذكر ذلك في مواضع عديدة.
ابتدأ مريد البرغوثي لقائي معه بقراءة قصيدة بعنوان «غمزة» اشتهرت فيما بعد كثيرا، وهي عن راقص دبكة شاب تغمز له صبية فيحلّق حبا ورقصا « غمزةٌ مِن عينِها في العُرسِ وانجنَّ الولدْ! » وحين سألته عن سبب هذا الاختيار غير المتوقع أجاب مبررا اختياره للقصيدة بل ولكل خطه الشعري، بأن ما يتوقعه القراء أو المستمعون من شاعر فلسطيني أن يكون شعره عن الاحتلال ومصبوغا بالدم الأحمر يلبس بدلة العسكر الكاكية، لكنه يفضل أن يكتب عن الحياة والفرح ففي فعل الكتابة هذا إدانة ضمنية لخاطفي الحياة ومانعي الفرح سواء أكانوا احتلالا أو دكتاتورية أو تخلفا اجتماعيا.
قابلت «مريد» بعد ذلك مرارا في مهرجان طيران الإمارات للآداب في دبي، وكانت لقاءات عابرة إلى أن جمعتنا الأقدار في لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» في دورة 2015 حيث كان رئيسا للجنة وكنت عضوا فيها. وبعد مراسلات عديدة بالبريد الإلكتروني حول تقييم الروايات كان اللقاء المباشر في تركيا لمناقشة الروايات المتأهلة للقائمة القصيرة، وقد كتبت مرة في مقال لي بعنوان «هدوء…مريد يلقي شعره» عمّا جرى من اختلاف واتفاق بيني وبينه في تقييم بعض الروايات، إلى أن ظننتُ للحظة أنه يمارس سلطة مزدوجة: ذكورية لرفضه رواية تحكي عن تفاصيل تخص مصائر أربع نساء، وسلطة رئيس لجنة بيده فرض رأيه، ولكن من نقاشنا توضّح لي أنني كنت متوهّمة فهو كان منحازا للقضايا المصيرية والتحولات الكبرى في الأمة لا إلى الهم الفردي والتفاصيل الموغلة في الذاتية، وهذا النقاش نفسه كشف لي عن جانب آخر في شخصية مريد البرغوثي إذ هو مستمع جيد مسلح بذكاء لماح وحساسية عالية للغة، مع روح أبوية غامرة.
وقد تجلت هذه البراعة في صوغ إعلان الفوز بالجائزة حيث يعد البيان قطعة أدبية محكمة مكتوبة بلغة عالية هي برأيي أفضل ما كتب من بيانات سبقتها أو لحقتها، رغم أن مريد البرغوثي كان يومذاك ممتلئا بالحزن لغياب حبيبته لنصف قرن وزوجته وأم ابنه الوحيد «رضوى عاشور»، فقبل موعدنا بأشهر قليلة توفيت رحمها الله في شهر نوفمبر 2014، وحين كان الباص ينقلنا من المطار إلى فندق الاجتماع كان لا بد من الحديث عن رضوى فهي وتميم الذي أصبح ملء السمع والبصر بعد مشاركته في «أمير الشعراء»، قاسم مشترك في أحاديث مريد. ذكرت له يومها أنني من قدمتها يوم نالت جائزة العويس وقد كتبت كلمتي بكل ما أحمله لها من حب وتقدير ففاجأني بقوله: «على فكرة رضوى قالت لي: البتّ بروين قدّمتني بشكل حلو جدّا جدّا» فسرّني أنها رضيت عن تقديمي لها، ولم تفاجئني منها قدرتها على إسعاد الآخرين حيّة وميّتة.
تلفتني علاقة مريد بابنه الوحيد تميم، وقد كتب عنه في الجزء الثاني من سيرته الذاتية «ولدت هنا .. ولدت هناك» وخاصة عن رحلة تميم إلى فلسطين بعد أن كانت «رأيت رام الله» عن رحلة مريد نفسه. ومن ير الأمسيات الشعرية المشتركة بين الأب وابنه لا بد أن يلحظ هذا الانسجام العالي البالغ حد التماهي بينهما من بريق الإعجاب في عيني تميم حين يقرأ مريد، وابتسامة الرضا والفخر على شفتي مريد حين يتجلى تميم.
أعتقد أن مريد البرغوثي ظُلم لأنه اختار أن يكون شاعرا إنسانيا لا ناطقا رسميا باسم قضية مهما بلغت قدسيتها، كما أعتقد أن الزمن كفيل بإنصافه فدواوينه وكتبه ستدفعنا أن نقول يوما: «لقد عشنا في زمن مريد».