لحظات فارقة في مسيرة النضال والسلام
إن نظام الفصل العنصري في إسرائيل بعد 75 عاماً على النكبة والتطهير العِرقي و الإبادة الجماعية في فلسطين بات بحاجة الى نكبةٍ أخرى يحاول فيها إثبات وجوده من جديد. منذ أكتوبر تشرين الاول الى هذا اليوم الذي أكتب فيه هذا المقال من شهر يناير كانون الثاني و الاسرائيلي يمارس الإبادة الجماعية وجرائم الحرب دون توقف ودون أي اكتراث بالمطالب الشعبيه العالمية، يمارس كل تلك الجرائم المروّعة على مرأى ومسمع العالم تحت غطاءٍ أمريكي يعطيه الضوء الأخضر من خلال الدعم العسكري والسياسي والإعلامي.
تحركت جنوب إفريقيا في خطوة جريئة استثنائية ورفعت قضية في محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بارتكابها لجرائم حرب وإبادة جماعية في حق الفلسطينيين. بعد صبر طويل وبعد أن ارتكب الكيان المجرم الآف الجرائم منذ نشأته الى اليوم وكل ذلك يمر دون أي إدانة حقيقية من حكومات دول العالم المتحضر التي تُخفي وتتستر وتبرر كل تلك الجرائم البشعة عن طريق أدواتها الإعلامية والصحافة غير النزيهة. في افتتاح المرافعة ضد الإحتلال يوم الخميس 11 يناير 2024 وقف وزير العدل الجنوب إفريقي رونالد لامولا أمام أعلى سلطة قضائية وقال:”إن العنف والتدمير الحاصل لم يبدأ في 7 أكتوبر بل أن الشعب الفلسطيني يعاني منذ العام 1948م، وسوف نقدم في هذه الجلسات أدلة على شروع اسرائيل في ارتكاب إبادة جماعية جماعية وحججاً تثبت أن الأذى الذي سببته في غزة شامل”.
لأول مرة تمثُل اسرائيل أمام القانون ومحكمة العدل رغم تاريخها المليء بالمجازر، هاقد وضعت جنوب إفريقيا إسرائيل في قفص الإتهام. باسمنا وباسم كل شعوب العالم الحر ومن خلال هذا المنبر نتقدم بخالص الشكر من كل أعماقنا لهذا الموقف الإفريقي التاريخي النبيل والإنساني، ونشكر إصرارهم على الإستمرار ورفع القضية رغم كل التهديدات والتضييق.
عانت جنوب إفريقيا من الإبادة والإضطهاد والفصل العنصري. في نفس العام الذي هُجّر فيه الشعب الفلسطيني قسراً من أرضه وتعرض للمجازر ولإبادة ثم إعلان دولة الكيان الصهيوني عام 1948 شهدت جنوب إفريقيا ولادة نظام الفصل العنصري الذي يعطي الإمتيازات والحقوق للأوروبيين البيض دون غيرهم وحصر السكان الأصليين في مناطق تشكل 13% من مساحة البلاد مثل ما تفعله إسرائيل في الضفة الغربية وغزة. وبعد نضال طويل ومقاومة متنوعة سياسية وعسكرية تمكنت جنوب إفريقيا من الإطاحة بنظام الفصل العنصري وإقامة الجمهورية الديموقراطية لجنوب إفريقيا، وكان الزعيم نيلسون مانديلا أحد القادة البارزين في هذا النضال -زعيم الحزب الوطني الإفريقي- والذي سيصبح رأيساً للبلاد وقائداً وطنياً ورمزاً للقوى التحررية عبر العالم بل ورمزاً للسلام، قال مانديلا في لقاء مُتلفز عام1990 :”إننا نتّحد مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لأنهم مثلنا يكافحون من أجل الحق في تقرير المصير “
في اليوم الثاني للمحكمة، الجمعة 12يناير 2024 يظهر الدفاع الإسرائيلي ليدافع عن نفسه وعن خيباته ظهور المهزوم المهزوز في تكرار كالببغاوات لكلام غير ذي جدوى حفظه الناس جميعاً، كأن يُكرر استعطافه للعالم بأنهم شعب تعرض للأبادة سابقاً وأن حماس فعلت كذا وكذا، بل ويشكك منذ الجلسة الأولى وعلناً في نزاهة المحكمة العليا ويتهم جنوب إفريقيا اتهامات كيدية، لم يقدم أي دليلٍ منطقي حقيقي يبرر له جرائمه، والإبادة لايمكن تبريرها بأي حجة. علاوة على أن جنوب إفريقيا ترى أن اسرائيل كيان محتل لغزة والضفة وهو يحتل غزة بجيوشه ولا حقّ لمحتل أن يدافع عن نفسه ضد قوى التحرر والمقاومة الوطنية…
كل الأدلة والوثائق التي تدين اسرائيل واضحة بل أن العدو نفسه أقر بها عبر تصريحات وزرائه العنصريين واعترافات جنوده وتفاخرهم بتصوير مقاطع فيديو تظهرهم فرحين يقولون عبارات عنصرية وهم يفجرون الأحياء والمباني السكنية. إن جرائم الإحتلال من الكثرة يصعب حصرها، القتل المتعمد للمدنيين الذين يحملون الرايات البيضاء واختطاف الناس والتنكيل بهم وسرقة الجثث وتفجير المستشفيات والمنشآت العامة ومقرات النزوح المعروفة دولياً وقتل الأطفال والنساء والأطباء والمسعفين وفرق الإنقاذ والصحفيين عمداً بل وحتى الحيوانات لم تسلم، وكل ذلك يتم نقله وتصويره عبر الصحفيين الميدانيين والهواتف الذكيه وعبر وسائل التواصل بشكل مباشر ويومي من أرض الميدان، أضف الى كل ذلك قطع الماء والدواء والطعام والوقود منذ أكتوبر. هل هذا الإسراف في القتل دفاعاً عن النفس أم اعتداء همجي؟!
إن هذه الدعوة القضائية التي قدمتها جنوب إفريقيا ستكلف الكيان الغاصب سمعته دولياً والتي فقد الكثير منها، إنه اليوم كيان منبوذ وهي واحدة من الهزائم الكبرى المتتالية التي مُنيَ بها الإحتلال منذ السابع من أكتوبر. يقول المحامي الدولي لحقوق الإنسان فرانسيس بول:”استناداً الى مراجعتي بجميع الوثائق التي قدمتها جمهورية جنوب إفريقيا حتى الآن أعتقد أنها ستفوز ضد اسرائيل كما أن أميركا مذنبة بموجب المادة 3أي من الإتفاقية التي تحظر التواطؤ بالإبادة الجماعية” وكانت جنوب إفرقيا قد قدمت للمحكمة 84 صفحة من الدلائل المفصلة والواضحة التي تؤكد ارتكاب اسرائيل لجرائم إبادة جماعية في غزة.
أرى أن الحكم النهائي لهذه الدعوة القضائية التاريخية لايهم كثيراً بقدر أهمية الدعوة نفسها، إذا أخذنا بالاعتبار أن المؤسسات والمنظمات الدولية التي تهتم بقضايا حقوق الإنسان ومنها محكمة العدل قد نشأَت بعد الحرب العالمية الثانية وأن النظام الدولي الذي يدعم جرائم الإحتلال سراً وعلانيةً يسيطر عليها وعلى قراراتها. على أي حال، فأياً كان الحكم النهائي الذي ستؤول اليه المحكمة سيشكل فضيحة للكيان المحتل وداعميه شعبياً ودولياً. سنبقى متفائلين ونقول مثلما قال مانديلا دائماً :” نعلم جيداً أن حريتنا تبقى ناقصة من دون أن تنال فلسطين حريتها”.