العنوان لكتاب يُصنف بأنه من الأدب الساخر، والمفقوع هو المواطن البسيط، الكادح، الذى يتميز بالصبر والشكر الدائم لله فى السراء والضراء، الذى لا يطمح فى الكثير، وكل ما يريده فى هذه الدنيا هو الستر وراحة البال ومعيشة آدمية كريمة، كما أنه الذي يكافح ويجاهد فى محاولة بائسة، يائسة منه كي يتأقلم مع الظلم والقهر والفساد، ولكن نتيجة لصبره على هذا الوضع، ونتيجة لصمته وتقبله للأمر الواقع اصيب هذا المواطن المفقوع بالعديد من الأمراض التى فقعت مرارته أكثر من مرة، ولكنه واجهها بجسارة وتحمّل وظل صامداً.
مؤلفة الكتاب شيرين ماهر مكي فى إطار قصصي ساخر ترى أن حياة المواطن مفقوع بلغت درجة تشعره أن حياته لم تعد لها قيمة، أو لم يعد لها معنى، ولم يعد لها مفهوم، فقد اصبحت غامضة، مبهمة، وسواء عاش او مات لم يعد هناك فرق، ففي الحالتين هو ميت حي، او حي ميت، ولكنه عاد وفكر: “إذا أردت الموت فسأختار ميتة تحفظ لي كرامتي المهدورة والمسؤولة حتى أكون محترماً أمام نفسي، وعليه اختار أن يموت من الفقعة، وقرر أن يكتم غيظه فى نفسه حتى يفرقع تماماً ونهائياً، وبذلك تنتهي مشاكله الى الأبد، وهذا الاختيار ليس لأنه مواطن سلبي، لا أبداً، بل لأنه أدرك تماماً أن عصر المعجزات قد انتهى، وأنه مهما فعل لتحسين حاله فلن يجدى ذلك شيئاً، لأنه ببساطة يجد من لا يريد أن يتحسن واقعه ولا همّ له إلا أن ينشغل إلى الأبد عن التقدم وينسيه أحواله وحياته المتردية البائسة وحقوقه المفترضة ..!
يا ترى كم أناس بيننا اليوم “مفقوعين” و”منسحقين” و”مهمومين” و”مقهورين” و”قلقين” حقاً وفعلاً على حاضرهم ومستقبلهم، وكأنهم نفوس معطوبة، يعيشون حالة إحباط لا تسعف احداً أن يتحمل أو يتجمل أو يخفى ضعفه وخيبته حتى وإن اراد رغم كل وسائل انتاج الشعارات التى تلقى رواجاً بعد أن وجدت لها أرضاً خصبة فى واقعنا، وهى الشعارات التى عجزت عن أن تتجمل او تُترجم بشكل عملي، وبالقدر ذاته مفقوع حين يرى الباطل وهو يتحول الى حق، والحق إلى باطل، ويجد أن القيم تهتز والمعايير تهدر وتختلط، والخجل يتوارى ويندثر، وحين يرى من يتصدر المشهد من هو أولى بالخجل، ومن يتقدم الصفوف من يفترض أن يكون خارج أي “حسبة” أو أي صف واعتبار.
يكفى التمعن فيما يثار الآن فى الكثير من المجالس الشعبية حول أمور وهموم كثيرة، وما يطرح فى الكثير من المواقع الإليكترونية، وفى بعض المنتديات، وأحياناً عبر بعض ما ينشر على صفحات القراء فى الصحف المحلية ذات الصلة بالمطالبات والمناشدات، وما يعبر عن أشكال من المعاناة والهموم لنكتشف اتساع مساحة “المفقوعين” وما يثار من قبلهم والذى لا يمكن فهمه او تفسيره إلا بأنه نوبة تعبير عن أوجه احباط ومعاناة، وأحوال أصبحت أبلغ من أي تحليل، لدرجة لم نعد نعرف من أي خيط نمسك، أو من أي زاوية نقف، أو من أي باب ندخل، وهو الأمر الذى يستدعي التأمل والبحث فى الجذور والمسببات ومن ثم بحث المعالجات الصائبة والمطلوبة، هذا إذا استهدفنا حقاً بلوغ المعالجات الحصيفة وليس الشعارات التى تعاظم الإحباط أو المراوحات التى تثير كم لا يستهان به من التساؤلات.
فى بحثنا حتماً سنجد من “المفقوعين” قطاعات من عموم الناس البسطاء، من ذوي الدخل
المهدود”، لا نستطيع أن نصفهم بأنهم نشطاء، وقطعاً ليسوا سياسيين حاليين أو سابقين ولا يمكن أن يكونوا لاحقين، بل هم أناس بسطاء، قلوبهم مليئة بالهواجس والهموم والإحباط ، لديهم مخزون هائل من بواعث ذلك كله: متقاعدون، عاطلون، تائهون، ومسحوقون وغيرهم، “مفقوعون” من حالهم، ومن النظرة السلعية والتجارية الأساسية لحياتهم، و مفقوعون من تصريحات مستفزة كتصريح أحدهم فى مجلس الشورى بأن الأجنبي أولى بالرعاية من البحرينى لأنه غريب ويحتاج إلى رعاية اكثر تعوّضه عن الغربة، وكأنه لا يهم حين يصبح البحرينى غريباً فى بلده اكثر من الغريب ..!
المواطن مفقوع من بواعث قلق تتزايد من تصريحات عن التنمية والإصلاح الاقتصادى، منها ما يدعوا إلى شدّ الحزام وبأنه لا تنمية بدون مشاركة الجميع، ومنها ما يبشر أو يمهد لفرض رسوم وضرائب على الخدمات واجراءات تمس جيوبهم مما يجعلهم قلقين مما هو مخفي عنهم، والمخفي يقال عنه دائماً أنه أعظم. مفقوع من تداعيات تحوّلات ومتغيرات اجتماعية وسكانية واقتصادية لم تخضع لأي بحث أو دراسة، ومن جروح غائرة ومصادر تهديد لمناعة مجتمعنا دون محاولة تلمس الحلول الناجعة للمعضلات والشروخ التى بات واقعنا يزخر بها، ومفقوع ممن يريد لنا أن نكون ضد كل ما يمكن أن يكون مشتركاً بيننا، ومفقوع إزاء من لا يريد لنا مجتمعاً مدنياً قوياً يُساند ويتحرك وينمو ويتفاعل، ولا يريد لنا جمعيات أهلية وسياسية ومؤسسات مجتمع مدني فاعلة ومتفاعلة ومستدامة، ويتفذلك فى دفع الكثير من هذه الكيانات إلى ما يجعلها تعانى الضعف والهشاشة وانسداد الشرايين مما يحول دون ضخ دماء جديدة فيها، جمعيات ومؤسسات أصبحت حيّة رسمياً وميتة سريرياً تعانى من واقع لا يبعث إلا الضجر، أو إلى حالة كاملة من اليأس!
المواطن مفقوع من نهج دعائي فى الحياة العامة يغيّب النقد البناء، ويضخم الايجابيات، وكأن ليس فى الإمكان أبدع مما كان. مفقوع ممن يريد بيعنا حياة مغشوشة تستميت فى الترويج لإيهامنا بشيئ فيما مضمون هذا الشيئ وفحواه شيئ آخر، ومفقوع من مهرجين يظهرون لنا بصفات مثل محلل عسكرى أو استراتيجي او سياسي او اقتصادى، أو خبير، أو كاتب، او إعلامي، أو مفكر، أو ناشط، وفى بعض الأحيان يظهرون بمظاهر حسب الطلب أو المصلحة، مهرجين كثر يحاولون اللعب على كل الحبال، يؤدون أدوارهم والمهم عندهم جذب المتابعين وتسويق بضائعهم وترويج أفكارهم فى الدين والسياسة والحقوق والفن والأدب والإعلام والرياضة، وفى هذا المشهد وجدنا الكثير من أمور واقعنا تحّول فيها الباطل إلى حق، والحق إلى باطل، والقيم تهتز والمعايير تختلط، والخجل يتوارى ليتصدر من هم أولى بالخجل.
وهو مفقوع من أوجه هدر وخلل وفساد لا تستند على القيل والقال، أو مما يدور حوله فى الهمس والتلميح عنه بل إلى وقائع معروفة ومتداولة وبعضها موثق كتلك التى تسجلها تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية، ومفقوع ممن جعلوا حال أداة المساءلة والمحاسبة والاستجواب كحال حمّام مقطوعة مياهه و”الطاسة فيه ضائعة”، او أداة مكبلة جعلت “المحميين” يعبثون من غير ان يحسبوا أي حساب لأي عقاب، ولا لأي معاقب تجاه أوجه الخلل والهدر والفساد، وجعلوا الناس كما لو انهم “فى انتظار غودو” الذى لا يأتي أبداً.
وهو مفقوع من انتشار ثقافة النفاق والفهلوة، ومن غياب او تغييب او تجهيل اسماء هى الأحق بأن يكون لها التواجد والحضور والتكريم فى المشهد الثقافى والفني والابداعي، ومفقوع من نواب ليسوا كالنواب، نواب حكوميين أكثر من الحكومة، ونواب يغلب أدائهم أصلاً وفصلاً “الطابع الكاريكاتوري” ، ونواب لا ينتجون أكثر من تأكيد ذواتهم، لا يجيدون كل بطريقته وبحسب مهارته سوى الإنصياع إلى مقتضيات “الشو والكلامولوجيا”!
والمواطن مفقوع من نوعية من مسؤولين لا نسمع منهم إلا جعجعة ولا نرى طحناً، لا تصدر منهم سوى تصريحات وشعارات ووعود وكلام معهود وأرقام وانجازات لا تلامس الواقع، وكأنهم فقدوا القدرة على الإنجاز وحين نجد مهمة أنجزت، أو مشروعاً فذلك ليس إلا امتثالاً لأوامر أو توجيهات أو تكليفات من فوق، ومفقوع من نوعية أخرى من المسؤولين يستفيدون من تجذر البيروقراطية فى إرساء أو ترسيخ نفوذهم ورعاية مصالحهم.
.
لا أحسب أن بحرينياً لا يعرف “القدر وغطاه”، ويعرف أن كل ما يزخر فى بيئة ما يفقع يستعصي على الحصر، ولذلك لا موجب لشرح يطول أو يقصر فى بواعث ما يفقع ويفجع ويقلق وفى شرح حقائق ووقائع كثيرة ليست غائبة عن الساحة، وإن كان المثال “الأفقع” هذه الأيام وعلى الصعيد الخارجي يجرى على مرأى ومسمع العالم وهو ما يجرى من وحشية وهمجية ومجازر ضد الشعب الفلسطيني فى غزّة وممارسة شتى صنوف التعذيب والتنكيل والإبادة الجماعية وضرب كل مقومات الحياة بحق الشعب الفلسطيني فى غزّة، وما يُفقع حقاً وفعلاً هو مواقف عربية تصيبنا بالغثيان، مواقف متخاذلة، أو متفرجة إن لم تكن متواطئة أو مساندة من الباطن، ومواقف لا تجد حتى الآن أن ما ارتكبه الكيان الصهيونى ضد الشعب الفلسطيني يذهب بكل أعراف الصداقة والتطبيع ادراج الرياح !
كما “افقعنا” وأدهشنا وآلمنا وحيّرنا موقف دول غربية كانت تتباهى بإنسانيتها وبرعايتها للديمقراطية وحمايتها لحقوق الإنسان وهى تساند الكيان الصهيوني المحتل فى كل ما يرتكبه من جرائم وانتهاكات وتبرر له كل ما يرتكبه من عدوان وما يمارسه من همجية، وكذلك يفقعنا الانكشاف الحقيقي لإدعاء المهنية فى التعاطي مع مجريات ما يحدث فى غزّة بعد أن سقطت ورقة التوت عن وسائل إعلامية وصحف ومذيعين وغيرهم فى التغطيات والمتابعات والحوارات والفبركات وطمس الحقائق.
لا أريد تضخيم مهمة مواجهة كل ما يفقعنا ويُنغص علينا الحياة بحيث نصل إلى اليأس، كما لا أريد فى الوقت نفسه تبسيط الأمر بحيث نصل إلى الخيبة، وعلينا أن نتذكر على الدوام ان الموضوع يتصل بالمعضلات والتحديات، وأنه من العبث والجنون هو أن نكرر نفس الفعل مرة تلو المرة .. بنفس الوجوه، نفس الآليات، نفس الأفكار، نفس العقلية، نفس السياسات، نفس المراوحات، منتظرين أن نصل إلى نتيجة مختلفة لنفس الفعل فى كل مرة، ذلك يجعلنا نعيش فى حالة مستدامة من الصور والأشكال والممارسات والقرارات التى تفقع سواء تلك تساير وتواكب فى المظهر، أو تلك التى تماطل وتعترض فى الجوهر، والأسوأ حين نجد من يريد أن يجعل من الماضي مرجعية لا تفهم التقدم إلى الأمام إلا بالعودة إلى الوراء، هذا قمة ما يفقعنا بلا حدود ..!
يبقى الأمل أن نلقى فى المستقبل القريب ما ندق له الطبول فرحاً وترحيباً.