هل حدث مسبقاً أن أثار كتاباً ما يشبه المجزرة في روحك؟ حاولت بعد قرائته أن تستعيد إيقاع قلبك الطبيعي إثر استلاب وركض عنيف ومطاردات مؤلمة بساقٍ مبتورة لا تفتأ أن تكرج دمعها ولا تكتفي بلقمة صبر بائتة؟ زعق في أذنيك بمساورات تاريخية مرعبة تسلط ضوئها على سنين طويلة مضرجة بالدم؟
يعدّ موقف الكاتب “الإسرائيلي” ايلان بابيه من سياسة التطهير العرقي في فلسطين، جسارة للضمير، فهو الذي لم يحجبه موقعه الجواني من النظر إلى جريمة حرب غزة وتصنيفها ضمن جرائم التطهير العرقي ليأخذ موقفاً أخلاقياً وأيديولوجياً من القضية.
مقدّمة وافية و12 فصلاً وخاتمة، استغرق فيها بابيه بعناية محاضر في العلوم السياسية في جامعة حيفا ومدير أكاديمي لمعهد الدراسات من أجل السلام في جفعات حفيفة، ورئيس معهد إميل توما للدراسات الفلسطينية في حيفا، وكمؤلف عدد من الكتب منها، تاريخ فلسطين الحديثة، الشرق الأوسط الحديث، والمسألة “الإسرائيلية” الفلسطينية.
حاول بابيه المؤلف أن يوضح بأن الحركة الصهيونية قد شنت حربها في عام 1948 على الشعب الفلسطيني لتنفيذ مآرب بعيدة المدى للترويع والقتل وحرق المساكن للتطهير العرقي.
ينقض بابيه الرواية الإسرائيلية عن حرب 1948؛ مؤكداً أن طرد الفلسطينيين لم يكن مجرد هروب طوعي جماعي للسكان بل خطة دقيقة وُضعت لمساتها النهائية في اجتماع عقده دافيد بن غوريون في تل أبيب يوم 10/3/1948 بحضور عشرة من القادة الصهيونيين، تشمل أوامر لوحدات الهاغاناه باستخدام شتى الأساليب لتنفيذ “الخطة دال” التي وضعتها “إسرائيل” سنة، 1948، وتحتوي على سلسلة منظمة من وسائل التطهيروتشكّل الخلفية للمذابح التي رافقت مرحلة التخطيط إلى مرحلة التنفيذ النهائية، يشكل حسب هذه التعريفات، حالة تطهير عرقي ثابتة.
وتتمثل هذه الخطة في إثارة الرعب، وقصف القرى والمراكز السكنية، وحرق وهدم البيوت، وزرع الألغام في الأنقاض لمنع المطرودين من العودة إلى منازلهم. وقد استغرق تنفيذ تلك الخطة 6 أشهر. ومع اكتمال التنفيذ كان نحو 800 ألف فلسطيني قد أجبروا على الهجرة إلى الدول المجاورة، ودمرت 531 قرية، وأخلي 11 حياً مدنياً من سكانه.
أخال أن استخدام مؤشر التطهير العرقي يتيح للفرد بسهولة اختراق التعقيدات التي يحيكها الدبلوماسيون والأكاديميون الإسرائيليون بصورة شبه غريزية للتصدي للمحاولات الخارجية لانتقاد الصهيونية.
لذا فإن الكتاب أبعد من كونه كتاب دعائي أو رسالة تحريضية لمراهق سياسي متحمس بل نتاج جهد توثيقي كبير للمؤرخ اليهودي- الدكتور ايلان بابيه أستاذ في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة حيفا، وقد حشد ثورة زملائه عليه بحجة أنه معادٍ للصهيونية وتعرض باستمرار للتهديدات التلفونية بالتصفية من الأوساط العنصرية التي تعتبره خائناً لـ”إسرائيل” وعميلاً للفلسطينيين.
ويستعرض بابيه كيفية احتلال القسطل واستشهاد عبد القادر الحسيني، ومذبحة دير ياسين وما جرى فيها من جرائم قتل، وتدمير للبيوت. كما يبين كيف تم احتلال قالونيا، ساريس، بيت سوريك، بدو، وكيف تم نهب محتويات البيوت بعد تدمير هذه القرى. ويذكر الكاتب كيفية تنفيذ الهجمات العسكرية على هذه المدن والمجازر البشعة التي ارتبكت ضد السكان الأبرياء، ويبين الدور التآمري للبريطانيين وصمتهم أمام هذه الأعمال الوحشية، بل إنهم ساعدوا في تدريب العصابات الصهيونية وسلحوها لكي تستطيع أن تقوم بهذه الأعمال ضد الشعب الفلسطيني. بعد أبريل 1948 يأتي الكاتب على وصف تفجيرات حيفا وإلقاء القنابل المتفجرة وسط الحشود، وطرد الناس تحت التهديد بالقتل.
ويذكر الكاتب أن غولدا مائير قد زارت حيفا بعد تهجير سكانها، وجدت من الصعب عليها أن تكبت إحساسا بالرعب عندما دخلت البيوت، حيث الطعام المطبوخ ما زال على الطاولات، والألعاب والكتب التي تركها الأطفال على الأرض، وحيث بدت الحياة كأنها تجمدت مرة واحدة.. ذكرتها بطفولتها حين هربت عائلتها من روسيا، والقصص التي سمعتها من عائلتها عن الوحشية الروسية ضد اليهود قبل عقود.
استخدمت أسلحة فتاكة وجرى تطوير أسلحة كيماوية وأخرى بيولوجية، والفلسطينيون “غير مدركين لما سيطرأ على حياتهم من تغيرات دراماتيكية وحاسمة. ولم يكن لدى قادتهم أو لدى الصحافة الفلسطينية، أي فكرة عما كان يجري تداوله خلف الأبواب المقفلة في البيت الأحمر”.
وتتذكر شولاميت ألوني المجندة حينذاك برتبة ضابط كيف كان المفوضون السياسيون يأتـون إلى الجنود ويحرضونهم؛ فيصورون الفلسطينيين شياطين، ويستحضرون الهولوكوست وضرورة العمل على منع تكرارها في إشارة إلى العمليات المتوقعة. صدرت الأوامر بنسف مباني الشيخ جراح في أبريل 1948؛ لكن البريطانيين أوقفوا تنفيذ الأمر.. “بيّن الموقف البريطاني كم كان مصير كثير من الفلسطينيين سيختلف لو أن القوات البريطانية تصرفت نفس الشيء في أمكنة أخرى. كما أعاقت جهود الأمم المتحدة للتدخل بطريقة كان من الممكن أن تؤدي إلى إنقاذ كثير من الفلسطينيين.