اختارت الأديبة الإماراتية صالحة عبيد أن تسمي روايتها الأخيرة “دائرة التوابل”، لا “دائرة الروائح”، مع أن هذه الأخيرة، أي الروائح، هي الحاضر الأكبر في مسار الرواية الواقعة في نحو مئتي صفحة من القطع المتوسط، والصادرة عن دار المتوسط، وهي الرواية الثانية للكاتبة بعد روايتها الأولى “لعلّها مزحة”، وهي التي بدأت مشوارها الأدبي كاتبة للقصة القصيرة، وصدرت لها ثلاث مجموعات منها، اضافة إلى كتابتها المقالة في الصحافة الإماراتية.
واختيار “التوابل” مفردة في اسم الرواية قد يشي بحرص الكاتبة على تجليس روايتها في البيئة المحلية للإمارات ولمنطقة الخليج، التي عرفت قبل حقبة النفط تجارة التوابل مع الهند وإفريقيا، كون مُدن هذه المنطقة تكاد تكون جميعها مدنًا ساحلية، تطل على الخليج العربي الذي قادت مياهه سفن بحّارته إلى آفاق تعدّ بعيدة بمقياس ذلك الزمن، ولعلنا نجد ما يشبه التفسير لهذه الفكرة في قولٍ لصالحة عبيد ورد في مقابلة صحفية معها حول الرواية، فحواه أنها كانت تمشي، ذات يوم، على امتداد ميناء الشارقة القديمة، المدينة التي ولدت ونشأت فيها، فشعرت، والقول لها: “برائحة اليود طافحة من البحر وتوحي نسبيًا بجثة على وشك التفسخ (…)، ثم وجدتني أخرج جهازي اللوحي من سيارتي وأجلس في مكان بمحاذاة ذلك الميناء لأبدأ بكتابة ذلك الفصل الأول من العمل”.
إذن رائحة البحر التي شممتها الكاتبة في ذلك النهار هي التي قدحت شرارة العمل في ذهنها، لتنطلق فيه، حتى أنجزته، لتضعنا لا في دائرة الروائح وحدها، التي حددت مصائر الشخصيات الفاصلة في الرواية، وإنما، أيضًا، في حلقات الدائرة الممتدة منذ لحظة الخليفة العباسي عبدالله بن المعتز الذي ذاع صيته كشاعر، أكثر مما ذاع كخليفة لم تدم خلافته سوى يوم وليلة، مرورًا بمدينة دبي بين عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين كونها المركز التجاري الأول في الإمارات، وانتهاء بدبي الحاضرة، دون أن يغيب عن بصيرة القارئ الحضور القوي للمرأة في أحداث الرواية، التي أبقيت مقصيّة عبر التاريخ، رغم ما نحن شهود عليه من تحوّلات مجتمعية وثقافية واقتصادية مهمة، كون تفكيك الذهنية التقليدية المتوارثة، بما فيها طبيعة النظرة إلى المرأة، مهمة عصيّة على الحل السريع، فهي وإن تغيّرت تتغير ببطء شديد.
تبرز المرأة القويّة المتمردة، التي تدفع غالياً ثمن هذا التمرد في أكثر من موضع في أحداث الرواية المفصلية؛ في حال شمّا في عشرينيات القرن الماضي التي وهبها الله حاسة شمّ مذهلة، جعلت العائلة، وفي كسر للتقليد المتبع، أن تتباهى بها، كونها المرشد في التعرف على رائحة التوابل التي تمتهن العائلة تجارتها، وبلغ هذا التباهي حدّ ازدراء شقيقها عبدالعزيز الذي لم ينل ما كان لشمّا من حاسة شمّ قوية، فشعر الشقيق بالمهانة في مجتمع اعتاد أن يعلي من مكانة الذكور، وقرر أن ينتقم لنفسه بجدع أنف الشقيقة، حتى يعطل ما يميزها، اي القدرة على التقاط الروائح.
لا تقل شيريهان ابنة الحاضر قوّة وعزيمة وميلاً لتحدي المحيط حولها عن شمّا، فهي الأخرى تشمُّ أكثر ممَّا ينبغي، وتُقوِّم الأشخاص استناداً إلى روائحهم، اعتادت في طفولتها أن تلعب بجوار المقبرة القريبة من بيتهم، حيث ستلتقي هناك بالصبي ناصر الذي لفت انتباهها فيه رأسه الكبير، والذي سيغدو، لاحقاً، زوجاً لها، رغم أن عائلته غيّرت مكان سكنها، لكنه لم ينس الطفلة شريهان التي غدت شابة، ورغم رفضها فكرة الزواج منه لأنها “لا تستطيع أن تحبَّه ولا أن تتزوَّجه، لأنه منعدم الرائحة، بل إن لديه رائحة ما، لكنها ليست “حامضية”، ولكنها توافق على الزواج بعد تعهد أخذت منه بأن يسمح لها بالسفر لمواصلة دراسة الطب في اسكوتلندا، لأنها أرادت أن تنأى بنفسها عن البيئة المحيطة الضاغطة عليها، وان تنعم بمذاق الحرية في البعيد.
وتبرز المرأة القوية، أخيرًا، في شخصية فاطمة بن ثابت في القرن الثالث الهجري التي فقدت حاسة الشم من جراء صفعة قوية من شقيقها يوم عثر عليها تقرأ رسالة من نشوان ذي البشرة السوداء، والتي رأت في المنام الخليفة ابن المعتز، بعد قتله حين قصد سامراء آتياً من مكّة التي نفيت أسرته إليها، يرجوها ان تنقل جثته من سامراء حيث قتل ودفن وتلقي بها في مياه دجلة، فـ “مكانه النهر ومساره حيث سينتهي به المصب في مكان لا دم فيه ولا ثار ولا نار”، فتعتبر ذلك بمثابة الوصية وتتسلل في الليل إلى المقبرة، تسحب الجثة من القبر وتلقي بها في النهر، لتشعر برائحة قويّة تداهمها، فلقد استعادت حاسة شمّها بغتة، وليتحرر الهواء المحيط في المدينة من الرطوبة الغريبة التي اثقلته منذ مقتل ابن المعتز.
“دائرة التوابل”، بلغتها الأخاذة والرشيقة، تطوّر مهم في مسيرة صالحة عبيد الإبداعية، وإضافة مهمة إلى المنجز السردي الإماراتي، بأصواته النسائية.