بين الثقافة والتاريخ، تتجلى أسمى معاني الوضوح والمعرفة في الحياة الإنسانية. ولأن تاريخ الإنسان، خصوصاً في الأزمنة الحديثة والمعاصرة، يحمل الكثير من الفصول والمراحل؛ في الفكر والسياسة والثقافة، على مستوى بناء الدول وتحديث المجتمعات.
في عالم اليوم، تنقصنا الكثير من المعرفة الهادفة، التي تنقذ العالم حقاً بدلاً من إغراقه؛ في ظل شيوع ثقافة (التبسيط وإدّعاء المعرفة)، تلك التي تصل إلى التضليل والأخطاء الفادحة، والذي لا ينتج سوى الإنحدار والتراجع، في حياة البشر والمجتمعات.
هذه المقدّمة، تتبنَّى، وبكل وضوح، الفهم السياسي والمعرفة الهادفة؛ التي تساهم حقاً في الإرتقاء بالشؤون السياسية والثقافية والتاريخية، في مجتمعاتنا ودولنا. أعلم أن هذه العناوين كبيرة جداً، وأتمنى التوفيق في الإضاءة عليها، خلال فصول هذا المقال. وإن الذي دفعني للكتابة حول هذا الموضوع، هو طبيعة المرحلة المهمّة التي نعيشها، على المستوى العربي والإقليمي والعالمي؛ وهي تستحقُّ بالفعل أن نقرأها بميزان الحكمة والمسؤولية – كمهتمين ومُنتمين – بقيم التغيير والتقدّم والنهضة.
(1)
المسافات الشاسعة التي تفصل كثيراً ما بين الشرق والغرب، تحاول الجهود الثقافية الهادفة، تقريبها والتعرف عليها؛ من خلال قنوات التواصل المختلفة، في الفكر والثقافة والفنون والأدب. وعند الحديث عن المسافة، ونحن في البحرين، فإن بلداً مثل «روسيا»، يكون بعيداً جداً بالنسبة لنا؛ ولكن محور المقال – ضيفنا في الحقيقة – جعلها، لنا، قريبةً جداً.
مِنْ وسط ضباب جائحة الكورونا، يأتي إلى بلدنا البحرين، وتحديداً لـ “مركز الشيخ ابراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث” في المحرق، الإعلامي الروسي “أرتيوم كابشوك”، المذيع ومُقدِّم برنامج بانوراما، على قناة روسيا اليوم.
كان هذا اللقاء، والذي كان بتاريخ 19 أبريل 2021، قد تناول موضوع «العقلية الروسية».. محاولاً تعريفها وايضاحها، من خلال الندوة التي نظمها هذا المركز الثقافي، النخبوي والراق، أمراً استثنائياً، بالنسبة لي، أن يأتينا في البحرين إعلاميٌّ مُهمٌ من روسيا؛ وهو الذي شاهدناه كثيراً على قناة “روسيا اليوم”، مناقشاً أبرز الأحداث السياسية في العالم. وإن هذه الزيارة – والتي جاءت في ظروف عالميةٍ وصحيةٍ طارئة – تجعلنا ننظر لها بعين الإحترام والتقدير، خصوصاً نحو القائمين على استئناف الأنشطة الثقافية في «مركز الشيخ ابراهيم»؛ وأيضاً لصاحبة الضيافة والدعوة – التي تعمل وتساهم دائماً – على الإرتقاء بمكانة البحرين الثقافية، على المستوى الدولي والعالمي. وقد تحدث عنها، أي عن هذه الشخصية، الإعلامي “أرتيوم كابشوك”، بالكثير من التقدير والمحبّة، والتي سنتعرف عليها من خلال هذه الكلمات التالية: “بدايةً، عميق وصدق شكري لـ”الشيخة مي”، على هذا الكرم وعلى ضيافتها لي، في هذا البلد الجميل، وبشكر كل مَنْ ساعدني على اكتشاف البحرين؛ وبفضل جهود واهتمام “الشيخة مي”، ساعدتني كثيراً، ليس فقط على اكتشاف البحرين؛ وإنما ما في عمق هذه الحضارة العريقة، التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، ولا تقلُّ عراقةً وأصالةً عن أي ثقافة شرقية أخرى، بل ربما تتفوّق عليها في بعض الأشياء”.
(2)
إن معرفة وتقدير التاريخ – عند الدول والمجتمعات العربية والشرقية – سيكون له الأثر الأكبر، في النهوض والتقدّم بها نحو الأفضل؛ أي نحو مسارات الإستقلال والتنمية والسيادة، خصوصاً في هذه المرحلة المليئة بالتحوّلات والمخاضات؛ بل والحصاد أيضاً، لما جرى خلال العقد المنصرم. هذا العقد، وهذه المرحلة، التي أثقلت التاريخ بصعوبتها وقساوتها؛ ولكنها تركت للعالم، العربي تحديداً، دروساً مهمةً جداً، ومن الجدير أن لا ينساها.
روسيا، بتاريخها وثقافتها وأدبها، منحت العالم ومنحتنا، صورةً جديدةً ومختلفةً للحياة الإنسانية؛ ولنا أن نصفها ونسميها بالعالم الغربي الآخر. نعم، إنها روسيا – الجغرافيا والتاريخ والثقافة والثورة – التي لم نتعرف عليها كثيراً، إلا من خلال النخب الثقافية العربية؛ تلك التي تعرفت واقتربت من الوجدان الروسي والهوية الروسية، والتي تجوهرت عن طريق كتابها وأدباءها، وصاغتها «الثورة» عبر مساراتها وأهدافها.
(3)
هل نستطيع أن نتساءل هنا ونقول: لماذا العقلية..؟! نعم، هو سؤالٌ مهمٌ جداً في الحياة الإنسانية، ولأن العقلية تعكس الفكر والطريق؛ الذي يحتاجه الإنسان من أجل تحقيق ذاته، الإنسانية والأخلاقية والإجتماعية.
إن أهمية سؤال العقلية في عالم اليوم، يفتح لنا آفاقاً هادفةً في إنقاذ مكانة الأسئلة الوجودية؛ في هذه الحياة، وفي هذا العصر. وعند الإشارة إلى هذا العصر وحياتنا العصرية، فهو لأننا نواجه ثقافةً صعبةً وقاسية، من الإلغاء والنمطية؛ تلك الاستهلاكية والبعيدة عن المضمون الإنساني. وفي مجتمعاتنا العربية، يكون التحدّي مزدوجاً، من خلال تكريس المعتقدات الجامدة والتقاليد المحافظة؛ تلك البعيدة عن معاني التجديد العصرية والقيم الإيجابية.
ربما ابتعدنا قليلاً عن عنوان موضوعنا، ولكننا، في الحقيقة نقترب من جوهره، وهو أن التغيير والتحوّل، هو السمة الأساسية في «العقلية الروسية»؛ وهي، من خلال هذا التحليل، الذاتي – الروسي، والموضوعي – التاريخي، والذي نتعرف على تفسيراته ومعانيه، عبر مصطلح (الفوضوية) ونتائج (الثورة).
(4)
في مختلف الثقافات، وعند مختلف الأمم والحضارات، يتمُّ تصنيف ثقافة الدول والشعوب، في إطار العنوان المعرفيّ العام لها؛ وعند متابعة تقييم الثقافة الروسية، بحسب المحاضرة، فإن بعض الباحثين والمؤرخين، قد نظروا إليها، أنها وسيطٌ ما بين الشرق والغرب. والمسألة هنا، ليست مرتبطةً بالتصنيف، بل بمعرفة الخلفية التاريخية للثقافة الروسية؛ وإذا كانت، هذه الثقافة – في يومٍ من الأيام – تميل نحو الشرق، في بعض المسارات والمعتقدات؛ فإنها تحوّلت، ومن خلال قيم التحديث والتقدّم الحضارية، بهويتها الذاتية نحو الأفضل؛ في السياسة والاقتصاد والتنمية والصناعة.
إن أوجه التقارب الموجودة – بحسب الباحثين والمؤرخين – بين الثقافة الشرقية والثقافة الروسية، ليس دعوةً من أجل تصنيفها؛ بقدر ما تطمح منَّا، أن نقرأها، في سياق التطوّر الحضاري والمجد الذاتي، في زمن التحدّيات وتعقيدات السياسة العالمية والدولية. وإن التنافس النزيه والعادل، بين الدول والأقطاب والتحالفات، هو الذي يجب أن ننتمي إليه – بل ونكون من السبَّاقين والمؤثرين فيه – في «لعبة الإدارة وفلسفة الدولة»، في عالم السياسة والاقتصاد.
الثقافة الشرقية، الشرق، المشرق العربي؛ جميع هذه التسميات صحيحة، ولكنها تكون بعيدةً عن المضمون، إنْ لم ترتقي وتنضج – ومن خلال المسار التدريجي بالتأكيد – الذي يشترط علينا أن نفكر بعقولنا وأن نعمل بأيدينا، لتحقيق متطلباتنا الطبيعية في الحياة الحديثة؛ من خلال تعزيز مشاريع التنمية المستدامة، في الإقتصاد والخدمات والزراعة والصناعة، التي تساهم بتعددية مصادر الدخل للدولة. وإن هذه السياسات الهادفة، تبدأها الإرادة الحضارية والعقول التنويرية، لدى أصحاب القرار في السلطة ومؤسسات الدولة؛ وهنالك تعريفٌ عظيمٌ في هذا الشأن، يُسمَّى «عقلية الوفرة».. من الجدير جداً أن نتعرف عليه جيداً، فهو مرادفٌ لما وصلت إليه الثقافة الروسية، من الإنجاز والتقدّم والمكانة؛ والذي نصل نحن إليه، عبر سياق النقد والتجديد والمصارحة مع الذات؛ في حين، أن روسيا، قد وصلت إليه من خلال «الثورة».
(5)
عند متابعة التاريخ السياسي لروسيا، خصوصاً بعد ثورة 1917، وما نتج عنه، من قيم ومفاهيم ومصطلحات؛ نجد أن هنالك مفهوماً رئيسياً قد تعرض للكثير من الظلم وعدم الإنصاف، ربما بسبب أنه لم يُقرَأ من المصدر، وأيضاً لأخذه وتقليده، من دون نقد أو دراسة. وإن هذه المسارات من (الأخطاء)، كانت أمراً ايجابياً وطبيعياً، لأنها كانت من أفكار وإرهاصات «الثورة»؛ والتي من الطبيعي أن لا تكون مكتملةً ومثالية، بل وربما يأخذها البعض، بشكلها دون مضمونها. وهنا نصل لهذا المفهوم، وهو «الشيوعية»، ذالك الذي أنتجه الفكر الماركسي، وقد تمَّ تحقيقه بعد «الثورة».
إن كاتب هذه السطور، لا يعلم كثيراً عن معنى الشيوعية، ولكن الإعلامي أرتيوم كابشوك – ومن خلال محاضرته –قام بتوضيح هذا الكلمة؛ قائلاً أن معناها: (هي تلك التي تشيع على الجميع)، أي من خلال الدولة والمنظومة التي تأسست بعد ثورة 1917؛ وهي المنظومة الاشتراكية. وهذا المفهوم، الاقتصادي والثوري – إن جاز التعبير – قد وصل إلى المنطقة العربية، المتطلعة للكثير من للطموحات، قبل وبعد مرحلة الإستعمار. وبلدنا البحرين، لم يكن بعيداً عن هذه التطلعات، بل وعن هذه الإنتماءات، التي كانت قوية التأثير والمكانة؛ لصدقها وقربها من حياة الناس، المعيشية والاقتصادية منها على وجه الخصوص.
(6)
بين المجتمع البحريني ومفهوم الشيوعية، وعبر المراحل السابقة والمعاصرة، الكثير من أسئلة التصنيف والجدل؛ تلك التي جعلت منه مفهوماً سلبياً جداً، على مستوى الفهم والتطبيق. وإن موقف الشيوعية من الدين، كان تفاعلاً طبيعياً في وجه النظام الإقطاعي الذي كان شائعاً جداً في الماضي؛ وإن التسميات التي أطلقها ويستخدمها هذا الفكر، مثل (الكهنة) و (رجال الدين)؛ كانت تعبيراً ورفضاً للإستغلال الديني ومعتقدات الخضوع، التي تبرر الفقر والظلم والإستبداد.
ولا زالت المفاهيم الدينية التقليدية، تساهم حتى اليوم، في تبرير ذالك، وبطرقٍ مختلفة؛ تلك التي لا تقترب من الجوهر، إلا نادراً، في مسائل العدالة والأخلاق والقيم. ولا ننسى هنا – عند نقد الموروثات السلبية للإتجاهات الدينية – دورها في التقليل من مكانة المرأة، ذالك الذي تدعمه (الذكورية) و (مفاهيم التخلُّف الاجتماعية)؛ وهو ظلمٌ، يصل في حقيقته، لجميع أفراد المجتمع، لأن المرأة ومكانتها؛ هي الجوهر والأساس لهذا المجتمع.
إن التحفظ على مفهوم الشيوعية، في المجتمع البحريني، قد تنامى وظهر كثيراً، بعد مرحلة التحوّل التاريخي في المنطقة، والذي حصل في العام 1979؛ والذي أدى بدوره، إلى زيادة الإنتماءات الدينية والمذهبية في هذا المجتمع. ونحن لسنا هنا، بصدد تصنيف هذه الإنتماءات، بالسلب أو بالإيجاب، لأننا تجاوزنا ذالك بالفعل؛ وإنما نسعى، أن نسردها هنا، موضوعياً وتاريخياً، قدر الإمكان.
(7)
الدين والإنتماءات الدينية في العقلية الروسية مرت بثلاث مراحل تاريخية، وهي التالية: الأولى، هي الإيمان الديني في مرحلة الامبراطورية، أي ما قبل ثورة 1917؛ والثانية، هي الإلحاد الديني وتعميم الإتجاه المادي والصناعي؛ والثالثة، هي العودة إلى الإيمان الديني المسيحي، بعد سقوط وتفكك الإتحاد السوفييتي.
هذه المراحل الثلاث، قد قام بتوضيحها الإعلامي «أرتيوم كابشوك»؛ وهو بذالك، يسرد لنا، تاريخاً ثقافياً عن قصة الإيمان ومكانة الدين، في روسيا والمجتمع الروسي.
(8)
روسيا، بماضيها وتاريخها وحاضرها، قدّمت دروساً مهمةً في معاني التطوّر والتحديث والنهضة؛ وعندما ننظر إلى أدبها وثورتها وثقافتها، نشعر إننا نقترب من طبيعة الحياة ومعاني الإنسانية؛ في الصعود والهبوط، للثورة والدولة، وللمنظومة الأيديولوجية والسياسية.
تتبنى روسيا اليوم الطموحات الإنسانية، في التعددية العالمية والمصالح المشتركة، وتدين بمنهج الإستقلال لها ولغيرها، حيث لا سيادة ولا هيمنة، من دولةٍ على أخرى؛ وتبحث وتعمل على ذالك، بالتحالفات السياسية الواضحة والعادلة، في الاقتصاد والتجارة ومجالات التعاون المتعددة.
(10)
وفي الختام، سنحاول الإضاءة على التساؤل الذي طرحه الأستاذ الفاضل، والذي قام بتقديم محاضرة العقلية الروسية؛ عن ما الذي لاحظه أرتيوم كابشوك في البحرين، خلال هذه الزيارة، من المقاربات والأشياء، الروسية – الشرقية، في ثقافة المجتمع البحريني.. وقد أجاب الإعلامي الروسي عن ذالك، بهذه الكلمات التالية: “طبعاً، لم أستطع اكتشاف المجتمع البحريني بشكلٍ كامل – بل ولم أكتشفه حتى بشكلٍ جزئي – لأنه كان لي، جولة قصيرة وسريعة، وفي المعالم، أكثر منها إلى الناس؛ فلم احتك ولم أختلط بالمجتمع البحريني.. ولكن أعتقد أن كرم الضيافة، هذا ما يوحدنا بكل تأكيد”.