شايلوك الجديد

0
23

كتب شكسبير عن التاجر الإيطالي اليهودي “شايلوك” في مسرحية “تاجر البندقية”، حين اقترض منه التاجر أنطونيو مبلغاً من المال، واشترط الأول على الثاني الشرط الغريب؛ في قطع رطل من لحمه في أي مكان يختاره هو، إن لم يستطع السداد في الموعد المحدد! وكاد شايلوك أن يأخذ حقه كما اشترط، لولا مرافعة مقنعة أنقذت حياة أنطونيو الذي كان يقرض الناس بلا فوائد، ويحتقر شايلوك المرابي قاسي القلب حتى وهو يطلب منه المال الذي ينقصه، متعهدا ألا يكف عن كراهيته حتى وهو مديون له!

وشايلوك ليست حكاية مبتكرة، إلا فيما يخص الانتقام الدامي في رطل اللحم المطلوب، لكن شخصية اليهودي التي تناولتها دراسات كثيرة سابقاً، لا تعبر بالضرورة عن الانتماء الديني بقدر ما تعبر عن الهوية والقومية والسمات النفسية المشتركة في هذه الفئة -كما في فئات أخرى- كما يذكر الباحث محمد سيد أحمد متولي في دراسة عن صورة اليهود في الرواية العربية المعاصرة، لكن معظم هذه الدراسات والسرديات أيضا، تعزز فكرة أن اليهودي شخصية تحمل في الغالب صفات دنيئة حتى بتغير المجتمع الذي تنتمي له، وما “شايلوك” إلا أيقونة وإشارة للكيفية التي يكونون عليها، حينما يرتبط هذا بالحركة الصهيونية بنفس الصورة التي نشهد للآن امتدادها؛ حقيقة أمام أعيننا.

وشايلوك في مظهره الجديد المستحدث، تقمّصه باقتدار الفنان الاماراتي “أحمد الجسمي” بدور “داوود” الذي شخّص صفات تسكن في الوعي الجمعي، لا تحتاج لجهد في التأويل رغم عدم التصريح بها، لكن الدلائل حاضرة لمن يقرأها بوعي متقدم عن الصورة البسيطة التي قدمها في دوره بمسرحية “زغنبوت” من تأليف إسماعيل عبدالله وإخراج محمد العامري، حيث يظهر “داوود” ذو الاسم المشتق من الأصل العبري التوراتي، وكيلا عن “البانيان” وهم المعروفون في الخليج منذ وقت طويل على أنهم التجار الهنود غير المسلمين، وفي العرض هو الغريب الطارئ الذي استقر ببلدة حلّ بها الجوع المميت، حتى لجأ أهلها لأكل “الزغنبوت” والمقصود به الذرة الرفيعة وعلف الحيوانات غير الصالح للاستهلاك الآدمي، لكن الجوع كافر فعلا.

وحسناً اختار المؤلف في الجوع مدخلاً لنصه؛ إذ تجلب هذه الحاجة الأساسية الملحة كل الأشياء بعدها؛ الثورات والحروب والكوارث المتتابعة، واستعان إسماعيل عبدالله بهرم الاحتياجات عند الإنسان، الذي قدّمه “ماسلو” عن نظرية الدافع البشري، وكيف للفرد أن يتصرف وفق ما يحتاج خوضه حسب حاجته الآنية، وليست المعتادة. ففي وقت ما قبل ظهور النفط في منطقة الخليج، سادت فترة قحط اضطر فيها الناس للتصارع على “الزغنبوت”، ويقع الطعام/الغذاء ضمن الحاجات الأساسية “الفسيولوجية” التي لا بد أن تتحقق للفرد ليحيا حياة آدمية؛ لذلك يتساوى الجميع تحت قرقعة الأواني التي تطلب سدّ هذا الجوع، ومن بعده يدخل المؤلف في ثاني الاحتياجات الأساسية حسب ماسلو، وهو الأمان الجمعي الذي سيفقد بمجرد تحقيق ما يريده المستفيد الجديد. فمن الذي سيختار؟ ومن الذي سيبقى على آدميته، رغم الخسارة؟

وقدّم العرض البانيان/ المنقذ على أنه من يلوح بتغيير الوضع، ليس فقط من الجوع للشبع، بل للرفاهية التي تدغدغ رغبات البشر في ذاك الوقت العسير بكل شيء إلا الحلم بسد جوع البطون. وقد كان بالإمكان اختيار شخصية أخرى تنسب إلى أي جهة غير معروفة، أو من الخيال، وبالذات أن العرض لم يقدم بالطريقة الكلاسيكية التي تفرض نمطاً أو شكلاً محدداً يحاسب عليه، فيما لو قدمه بعيداً عن واقعه. فهل تم اختيار البانيان تكريساً لفكرة الغريب المتأصل في المجتمع؟ أو لأن الخليج بأكمله على علاقة تجارية قديمة بالهند، في الخشب والبهارات وتجارة اللؤلؤ وغيرها، ووجوده منطقي في عرض معني بفترة محددة ومجتمع معروف، عدا عن كونه رمزاً للمال، ومن ثم السلطة في زمن الحاجة؟ كلها أسئلة تحتاج لإجابة أو لتأويل يفسر هذه الإشارة أو يمنطقها. لكن كم غريب متأصل أو طارئ ينشد الخيرات في مجتمعات الخليج؟

أما شايلوك الجديد فجاء وسيطاً للمناورات المعنية بالمقايضة في الصفقة الرئيسية: زواج بنت النوخذة من “البانيان” القابع في أرجوحته بخلفية المسرح لا ينطق بحرف في كل العرض، داوود يأخذ كل المهمة على عاتقه مشكوراً، متحملاً كل الشتائم بسعة صدر كأنها موجهة لغيره، وصبره هذا مؤقت فغايته أثقل من كلمات لا يهتم بها، صدره موغر باحتقار الآخرين له، لكنه يتحين الساعة التي يقتطع أرطال اللحم من هذا المجتمع الذي يلفظه.

ورسم العرض تاريخاً جيداً يلمّ بالشخصيات؛ سواء عبر التعريف المباشر، أو عبر الشخصيات الأخرى التي تعرّف المتلقي دوافع الفعل لدى أي أحد. ورغم أن كل الحديث يدور حول البانيان أو في فلكه، بما يحمل في محمله، وكل الحكاية متصلة به؛ بينه وبين الناس/ المجتمع الذي قدم عليه. ففي الظاهر، هو بطل الحكاية، لكن في الباطن، داوود هو الشخصية المحورية التي تدير الأحداث في الظاهر وفي الباطن. منذ ظهوره الأول في الهيئة المختلفة عن الآخرين موقفاً وشكلاً، كان ينبئ عن عمق مختلف لمن هم في نفس الكفة، حتى في اختيار المخرج له بين الكبار: النوخذة حشر الدواس والطواش المر -ولكل اسم منهما معناه المباشر الذي يصب في صفاته-، وهو يتوسطهما حين عرّفا بنفسيهما بشكل مباشر في مواجهة الجمهور، الذي يعرف عن عقدة داوود الأولى أنه بلا أصل ولا فصل، وافد جديد نسبياً على المنطقة، لكنه استطاع أن يكون من مراكز القوة في وقت قصير، لذا يطعن في موازين الآخرين الذين يذكرونه بما هو عليه، ويعلن أن هذه الموازين البائدة تغيّرت إلى المال والقوة والسلطة التي لم تعد بمتناول الآخرين سوى موكله البانيان، والحقيقة أنه من يدير اللعبة كلها، ويستخدم التوكيل كذريعة لكي يصل إلى مبتغاه الشخصي، مستخدماً ما يشبه نظرية “الغرس الثقافي” التي تعنى بالأشخاص الذين يتعرضون لمشاهدة التلفزيون بشكل مكثف، ويعتقدون أن ما يشاهدونه هو مطابق للواقع. كيف لا، وهو يقبض على السلطة والإعلام في نشر الأخبار ونقل معلومات بشكل موجه؟ وهو يفعل هذا من خلال تكرار التخويف للعامة بالجوع مجدداً، حتى يخلق منهم طبقة رأي عام، تفرض رأيها على النوخذة حشر الدواس فيرضخ معتقداً الصواب! فالخوف يجعل الناس أكثر عبودية وخنوعاً لمستحوذي السلطة من أمثال داوود.

وشخصية داوود ذكيّة جداً، تظهر تفوّقاً في رسم الخطط ذات المدى البعيد، والتي تهدف للسيطرة على المنطقة وأهلها عبر التورط في المصاهرة والنسب، ولو بالجبر، وتفهم نفسية الموجودين -بكل مستوياتهم- وتلعب على تطلعاتهم، وتجيد التعامل مع عواطفهم ورغباتهم التي يجيد تفسيرها، وتقرأ طموحهم. لذلك قرأ داوود إدعاء المر أنه في صف حشر، وكاشفه أنه يفهم دفاعه الكاذب عن حشر؛ ذلك أنه لو وافق على تزويج الجوهرة للغريب، سيحظى بكل المميزات الموعودة، وهو ما لم ينكره المر! بل ووافق على إقناع حشر بالموضوع حتى يأخذ نصيبه أيضاً من الخير، والضمان كلمة! لأن “البانيان كلمته وحدة، وما يخلف وعده”! هكذا يرتب داوود سياسته في الفصل والتفريق حتى يكون الخصم أضعف، ومن السهل النيل منه!

لذا، فكل الحاصل إرادة داوود الذي ينطق باسم البانيان، ويحقق من خلالها كل ما أراده من تشتت مجتمع، وتشوّه في الهوية، وهدم رأي الدين، وبدأ بهذه الأخيرة حين عارضه الملا عبدالرحمن بمسألة الزيجة مقابل العطايا، مستنداً على مجموعة من الآيات القرآنية الكريمة في إثبات بطلان هذا الفعل، لكن المفاجأة في ما قابله داوود به من الرد عليه بآيات أخرى تثبت للعامة أن الملا يصعب الأمور؛ لأنه لا يهتم لمصلحة المجتمع وتبعات ما يقوله على مصير الجياع، لذلك يستبدل الملا عزيز والملا عيسى به، واللذين يقومان بدور وعاظ السلاطين، كما أطلق عليهم عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي، ليعطيا آراء دينية مناسبة لموقع السلطة!

وعدا أن داوود يسعى لنخر جدار الهوية عبر إتمام الزيجة، يتسلل للفرقة الشعبية التي تمارس “الآهل” التي اشتهر بها أهل البحر في دولة الإمارات العربية المتحدة تحديداً، والذي يعتمد على قوة صوت المؤدي الذي يلقي قصائد شعر نبطية من مخزونه المحفوظ، دون أن يصاحب هذا أي من الآلات الموسيقية المعروفة، سوى التلويح بالعصي للتعبير عن مشاعر الفرح والحماس وغيرها. ونتيجة لصعوبة أداء هذا الفن، فإنه يواجه الاندثار نتيجة عدم إقبال الأجيال الجديدة على ممارسته[1]. ويدعي داوود أن موكله “ينتشي ويطرب” لهذا الفن، لكن ما لا يعجبه فيه أنه “فن من غير دق طبول”! تمهيداً لطلبه منهم أن يمارسوا هذا الفن بإضافة الطبول وآلة “السيتار”. ورغم استنكارهم الشديد في البداية، إلا أنه يحصل لاحقاً بتعليمات وتوجيه! وهذا التغيير ليس من باب التطوير كما نعرف -والشواهد موجودة-، بل هو عبث مقصود بموروثات وثقافة، لو مرّت بدون اعتراض، ومع الوقت، ستنسب الموسيقى والأزياء والألوان والطعام، وسيخرج أحفاد داوود ويدّعون أن هذه ثقافة جدهم الذي سكن هذه الأرض منذ زمن طويل، وغير مستبعد أن يعيّن لدى داوود وزيرا للتراث معني بالهوية الجديدة!

وكان من الممكن أن ينتهي العرض إلى هنا، وبحسب مؤشرات وقراءة الواقع، لكن شرارة الأمل في الثوار؛ في الحبيب المخلص الذي لم يرضخ للسلطة التي تحرمه حبه وأرضه وهويته، وحبيبته التي لم ولن تتخلى عنه ما دام يحميها بروحه وبدمه، ولا يعني زواجها هذا الاطمئنان الكامل أن الأمور مرّت كما يجب، بل يتحمل المتلقي جزءاً كبيراً منها عند نزول الحبيبين بصحبة الملا/ المشرع؛ لأننا -كجمهور- شهود يجب أن نشهد بالحق، وأن “الزغنبوت” لا يعني فقط أكل البهائم الذي كان الناس يتصارعون عليه في البداية، بل هو في معناه الآخر: السم المميت الذي نتجرعه في سكوتنا عن الحق، رغم رؤيتنا له بوضوح.

  • لمشاهدة مسرحية “زغنبوت” في العرض الذي قدم في الشارقة مارس 2023، وبغداد يناير 2024، يرجى زيارة الرابط التالي:

 [1]  مقابلة مع رئيس جمعية بن ماجد للفنون الشعبية في صحيفة البيان الإماراتية، https://www.qdl.qa/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9/%D8%A8%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%AC