الإماراتية وداد خليفة في رواياتها الثلاث

0
86

رائحة الجدّات وأنفاس المكان وذاكرة الزمان

مجد يعقوب

وداد خليفة النابوده السويدي، كاتبة إماراتية، حاصلة على بكالوريوس علوم إدارية وسياسية من جامعة الامارات. عملت  في مجال التعليم كمعلمة 18 سنة، ثم في الإدارة المدرسية لمدة 5 سنوات، صدر لها كتاب بحثي بعنوان: “”تاريخ الخليج العربي”، بالاشتراك مع د. راشد أبو زيد ، كما صدرت لها ثلاث روايات هي على التوالي: “زمن السيداف” في جزئين، “خبايا اللال”، “عشبة ومطر”. لا يمكن وصف أعمالها الروائية على أنها تاريخية فقط  أو اجتماعية فقط أو اقتصادية فقط أو سياسية فقط، في سردية كثيفة، تداخلت محطات الحياة وامتزجت برائحة الأماكن الأولى و تفاصيل المعيشة التي تكاد أن تحسها وتشم عبق ذاك المكان ، فقد نجحت الروائية بأن تأخذنا إليهم في رحلة نكتشف فيها كيف كان ذلك الزمان وتفاصيل المكان، في منتصف ثلاثينيات القرن التاسع عشر وحتى نهاية الستينيات عندما بدأت تلوح في الأفق بشائر التغيير من أثر التعليم الذي أقبل عليه الشبان والفتيات، والأفكار المستنيرة التي بدأت بالتحريض على رفض السلطات البريطانية لحكم البلاد .

إنها روايات برائحة الجدّات، وأنفاس المكان وذاكرة الزمان الذي اختزن معاناة أهالي إمارات الساحل المتصالح، لتغدو بعد كل الذي مضى،  إمارات اليوم التي تتسارع نحو الحداثة والتطور والبناء في نموذج قلّ مثيله في العالم العربي.

زمن السيداف

“زمن السيداف” رواية إماراتية خالصة، تكاد تكون سجلاً كثيفاً يزخر بتفاصيل تلك الفترة الزمنية بكافة جوانبها. زواية تستحق عليها صاحبتها التكريم  وأكثرعلى هذا المنجز الوطني. الحياة في صحراء قحلت أرضها وشُّح ماؤها، أوصدت الأرزاق أبوابها وفتح الفقر فاهه لتأكل أنيابه جسد الإنسان تقاسمه الغزوات والخلافات الداخلية ذلك النهش، فوجه الفقر المدقع الذي يلم به يقابله الرِّق والنهب المجتر للنذر اليسير الذي يملك.

هجمات الثأر المباغتة لـ (رجال بن ديلان) القادمين من عُمان على العائلات اللاتي له ثأر عند رجالها، حيث الوحشية محركاً لهم لارتكاب جرائمهم من قتل وحرق ونهب لكل ما تطاله أيديهم، حتى الأطفال الذين يحملون وزر آبائهم يتم انتزاعهم من حضن أمهاتهم اللاتي لا يمتلكن سوى ابتلاع آلامهن. تضعنا الروائية أمام بداية صادمة، مشاهد الهجوم المباغت، اختطاف الأطفال، لهاث الأمهات وهن يركضن بأذرع تحاول انتشال أولادهن من براثن الغياب، تركضن،  تسقطن، تنهضن حتى يتكوّرن على آلامهن التي تستقر في محاجر عيونهن ولا تتلاشى كما طيف فلذة أكبادهن آخذ بالتلاشي .

يهدأ المشهد قليلاً من قسوة الرجال الضارية، وحوافر الخيول، زمجرة أصواتهم المختلطة بصراخ الخوف ورجاء الأمهات و استجداء الفرائس، تسكن الرمال ويأخذ كل منهم مكانه لاستعادة ما حصل، تنقشع الرؤية ونلج في التفاصيل وربما تفاصيل التفاصيل، إذ أنها ليست حياة واحدة لعائلة واحدة، بل ربما حيوات متعاقبة على أهالي إمارات الساحل المتصالح، حيث كانت المعيشة في غاية بساطتها. العائلات قليلة تتجمع في أطراف متقاربة معاً “الفريج” تجمعهم أهوال المعاناة التي يتحملونها معاً، نساء وأطفال في انتظار عودة الرجال من رحلات الغوص الطويلة ، اللؤلؤ الطبيعي المصدر الرئيس للرزق رغم ما يكتنف الحصول عليه من مخاطر وربما الفقد أو المرض أو ضياع الرزق وسرقته، لكن الفرح في عيون النساء والأطفال يزغرد عند عودة الغواصين، ولأن ليس للحياة وتيرة واحدة  تتعثر هذه المهنة بظهور اللؤلؤ الصناعي، الذي أوقع البلاد في ظروف صعبة و عوز شديد وشاركهم هجوم الجراد في ذلك.

ظهور الرِّق أو المملوكين نتيجة هجمات الثأر واختطاف الأطفال من عائلاتهم ومنحهم للعائلات الكبيرة للخدمة في بيوتهم أو تسييرأعمالهم، وتصبح هذه العائلات متحكمة في مصيرهم وشؤونهم كافة، وما كان الخلاص من هذه العبودية إلا بالعتق والذي كان نادراً ما يحدث أو باللجوء إلى “الحطبة” وهي السارية المنتصبة وسط ساحات مراكز الشرطة البريطانية، أو بالهروب خارج البلاد كلها، عندما بدأت مظاهر التجارة البحرية تتشكل مع الهند وشرق إفريقيا، مما جعل بعض العائلات الكبيرة تجني الأرباح الوفيرة تختزنها وتهربها على هيئة “تولات ذهبية” وعملوا على توسعة تجارتهم، كما عملت التجارة على اتساع الرؤية لدى بعض الشباب الذي تنقلوا بين البلدان للتجارة أو القليل جداً ممن غادر لطلب العلم، حيث عادوا إلى البلاد بنظرة مختلفة وبكراهية مضاعفة للسلطات البريطانية التي كانت تُغرق أهالي الساحل المتصالح بالجهل وسطوة القوة. يشاركهم بالتنوير،  دخول المذياع إلى المقاهي وبعض البيوت الكبيرة حيث أصبح بإمكانهم معرفة ماذا يجري في العالم من حولهم. مجموعة قليلة من الشباب المستنيرين دأبت في القراءة والبحث والاطلاع، ومتابعة ما يجري في العالم وأحداث مصر وممارسات البريطانيين في فلسطين، والانتقال من مرحلة الكتاتيب إلى التعليم النظامي، حيث توجه الطلاب إلى إمارة الشارقة التي افتتح حاكمها أول مدرسة نظامية “مدرسة القاسمية” وإعادة إحياء مدرسة الأحمدية في دبي ومن ثم تطوّر الأمر إلى افتتاح مدرسة لتعليم الإناث في الشارقة “مدرسة الزهراء”. أصبح طلاب المدارس يرمون الحجارة على سيارات البريطانيين، في إشارة إلى رفضهم وطلب خروجهم من البلاد. كما وبدأت مظاهر التحسن المعيشي تظهر شيئاً فشيئاً، بناء مشفى في دبي، دخول المولدات الكهربائية، وسفلتة بعض الشوارع، والتطور آخذ بازدياد، وتزايد أعداد الطلاب كذلك والتحاق العديد من الفتيات بالتعليم.

“موزانة” الشخصية المحورية في الرواية التي تدور بها وحولها الأحداث، تُحرم من طفولتها وعائلتها بعد اختطافها، يتمّ ترحيلها  من مدينة العين إلى دبي، ولم تكن قد تجاوزت العشر  سنوات لتعاني أشدّ ما تعانيه طفلة وجدت نفسها في عالم بعيد عن حضن أمها، فكم كانت تقضي الليالي منهكة من النحيب دون أن تجد من يكفكف دموعها لتصحو فجراً للخدمة وما اعتادت عليها، تكبر موزانة خادمة في البيت الكبير ونظرة الفقد والحزن لم تفارق عينيها.

شخصيات عديدة تشارك في بناء هذا العمل الروائي الكثيف، وربما تزيد السرد سرداً يغرق في التفاصيل التي تشعرك بالإفاضة في بعض مواضع الرواية. تتعدد صور المرأة في الرواية من موزانة المختطفة التي وجدت نفسها عبدة عند إحدى العائلات الكبيرة إلى “الأم العودة” التي نرى بها أنموذجاً للمرأة القوية المتحكمة بمصائر مخدوماتها والتي تمارس مهنة التجارة والتي تطلق كلماتها وعوداً صارمة، إلى الأم الثكلى التي فقدت أبناءها ولم تأل جهداً في البحث والسؤال.

تعاني “موزانة ” ما تعانيه من قسوة الاختطاف وحرمانها الأهل والعائلة  التي عثرت عليها بعد زمن طويل جدا تمكنت من خلاله موزانة أن تودع الطفولة وحدها وتستقر كخادمة في بيت أمنا العودة، إلى زواجها من الذي تركها وغادر البلاد ليتخلص من العبودية، حتى تلتقي ب(عوض) الرجل الذي أعاد لها بعضاً من جمال الحياة والذي أعاد بعضه الآخر ابنتها .تقضي ” موزانة ” كل عمرها وهي المملوكة  الخانعة المستسلمة لكل ما تؤمر به، وحدها الدمعة لم تفارقها، ووحده الحب بين ضلوعها يدعوها  للتمرد بكل ما أوتيت من قوة، من أجل صالح ابنتها وحقها في التعليم، وليس هناك من سبيل للخلاص سوى التوجه إلى “الحطبة.” على باب مركز الشرطة التي تتوسطته “الحطبة” وهي السارية التي تقف وسط ساحة مركز الشرطة، تقف “موزانة” ويمرّ شريط العمر بأكمله أمام عينيها وإصرار أكبر من الآلام التي مرّت بها، وما أن تهم بالدخول، حتى تسمع صوت زوجها عوض من بعيد يناديها: “عودي … عودي ..

موزانة .. لم تكوني يوماً مملوكة .. ولم يكن سوى وعداً “.

خبايا اللال

تعيدنا الروائية إلى حيث ما وصلنا قبلاً في روايتها الأولى “زمن السيداف” عن حياة أهالي البلاد ومتاعب الحياة وشظف العيش عندما بدأت تجارة اللؤلؤ في الخفوت وصولاً إلى المطاحن الاجتماعية والظلم وظهور طبقة المملوكين، لتواصل سردها في إصدارها الثاني “خبايا اللال” ما حلّ بالديار والقبائل والعشائر وأبناءها أثناء البدء بعمليات التنقيب انتهاءً بالتمرد والإضراب واستخراج النفط والبدء بتصديره . تقول: لم يكن الأمر سهلاً على القبائل الأُول الذين عُرفوا بفطنتهم وفرساتهم أن الذهب الأسود القادم سيأتي بالكثير ويأخذ الكثير. حيث كانت البلاد ما تزال بِكراً لم تطأها قدم غريب.

تدور أحداث الرواية في الفترة الزمنية الممتدة من أواخر ثلاثينيات القرن المنصرم حتى بداية الستينيات (12 ديسمبر1963)، عندما تم تعبئة أول ناقلة نفط، حيث وصلت الناقلة “إسودبلن” قبالة ميناء جبل الظنة لتحمل الشحنة الأولى من نفط حقول أبو ظبي البرية بعد سنوات طويلة من العناء والعمل المضني والانتظار والتأرجح بين اليأس والأمل.  وتبدأ فصول الرواية الأولى باستطراد فائض في سرد التفاصيل  التي جاءت تقريرية بحتة والوقائع عن عمليات التنقيب الأولى عن النفط من قبل الانكليز الذين جاؤوا في بادئ الأمر بحجة البحث عن الماء، ثم تبيّن فيما بعد أن غايتهم كانت التنقيب عن النفط، وما البحث عن الماء سوى خدعة ليمروا من خلالها لغايتهم ثم وعودهم بالخير الذي سيعم حين اكتشاف النفط .

تقول الحرة إحدى الشخصيات الأبرز في الرواية: “إنني أرى رجالاً يمتصون عروق ثروات هذه الأرض وفي ذات الأوان يحاولون هدر ماء أصالة عروقها .لكنهم تناسوا أثناء عملهم أنهم وجدوا على هذه الأرض قبائل تعيش فيها منذ القدم، فلم يحاولوا فهم أعرافهم ولا مكانة ركابهم وطبيعتها، ولم يأبهوا بأهمية نقاء أراضيهم وهوائها . فالصحراء ليست يباباً كما تسمى، إنما هي الثراء المتخفي الذي لا يجاهر بنفسه إلا لمن يملكون الحكمة وعمق النظر، إنها لا تفشي أسرارها ولا تُظهر كنوزها إلا لمحبيها ذوي البصيرة ولأولئك الذين يستثمرون معطياتها لصالح معيتهم وتسهيلها.

والإبل التي ماتت واقفة متسمرة في بقع الطين التي خلفتها عمليات التنقيب، تعشق أوطانها ولا تخطئ طريقها، ولا يمكن أن تنساه مهما تباعدت، والوفاء تجيده النياق وتتفوق به على كل الكائنات .

الألفاظ المحلية المحكية، تغدق الروائية بها علينا وتتنبه لضرورة شرحها وتفسير معناها كأنها تشير لنا إلى حجم التغيير الذي طرأ على كل شيء ووصل المفردة وطرق التواصل، كما وتستذكر عادات البدو وشيمهم المتأصلة في الكرم الباذج رغم أنهم لا يملكون ما يسد به الرمق، غم ذلك يؤثرون على أنفسهم، إلا أنهم لم يستسيغوا وجود غرباء تستبيح أراضيهم وتعبث بطبيعة صحراءهم .الإنكليز الذين غيّروا ملامح الأرض وحولوها إلى أرض تأكل أبناءها بعدما كانت أماً رؤوماً بهم، عندما تركوا وراءهم مخلفات عمليات التنقيب التي تحوّلت إلى بقاع من طين واسمنت ابتلعت البشر وقتلت الإبل واقفة. مقدرة البدوي على تسهيل عمليات التنقب ورسم الخرائط وتتبع الأثر، إلا أنهم لم يتعاملوا معه على أنه شريك في العمل وصاحب حق وثروة وأرض  بل أجير بأبخس مردود ومعاملة مهينة، بعد أن أذلته الحاجة وما أصاب البلاد والعباد من قحط بعد شح تجارة اللؤلؤ.

استخدم الإنكليز العمال والذين هم أبناء العشائر في ظروف عمل قاسية يجهلونها تماماً مع فقدان الرعاية الصحية والإسعافات الأولية للحالات الطارئة وتغذية متدنية جدا في حين أن طعام الانكليز كان يأتي في الطائرات إلا أن طعام العمال اقتصر على الأرز والعدس. لم يكن رفض العمال لهذا الوضع بالشكل المرضي حتى وصل إليهم الصندوق الحديدي الناطق (الراديو) لتصبح الصورة لديهم أكثر وضوحاً فيما يتعلق بالوجود الإنكليزي في البلاد ومناطق النزاع وترسيم الحدود وفصل أو ضمّ الأراضي، حيث أدرك العمال من خلال سماعهم صوت العرب الذي يُبث من القاهرة مفهوم الوحدة العربية والأفكار الثورية المناهضة للاستعمار وأن هناك مناضلين في فلسطين وأنحاء الوطن العربي يجاهدون ضد الاستعمار .

لقد كان للإذاعات العربية وخصوصاً “صوت العرب” دور كبير في التنوير وإيضاح دور بريطانيا في استخدام القوة لتحقيق أهداف بريطانيا أكثر من دورها في الحفاظ على أمن الإمارات المتصالحة والنزاعات على المناطق الحدودية ما هي إلا نزاعات بين شركات النفط البريطانية والأمريكية للاستيلاء عل أكبر قدر من المخزون الهائل من النفط والغاز اللذين تحتويهما المنطقة .بدأ الوعي يدبّ في العقول، بدأ العمال في المطالبة بحقوقهم بفعل إضرابات حقيقية مطالبين بضرورة تغيير أسلوب التعامل معهم والعمل على تحسين مستوى معيشتهم .حيث أن الإذاعات العربية تعمل جاهدة على تحريضهم وتوعيتهم بحقوقهم في ثرواتهم المرتقبة .

(الحُرة) … الشخصية الأبرز للمرأة البدوية في العمل الروائي .(الحُرة ) التي فقدت والديها، تربت في كنف جدها الذي أعدّها لما تكون هي عليه، فهي وريثة لعمته اليازية الكبيرة في اسمها وحكمتها وقوة شخصيتها و “فزعاتها”. (الحُرة ) آمنت أن الأحرار هم السادة، فاستعلت على الحاجات والشهوات وبنت مجدها بانعتاق نفسها من كل ما يكبل شيم أصالتها، مما حدا بأبناء عشيرتها بمناداتها بلقب (الحُرة) الذي غلب على اسمها وشاع بين القبائل فكانت أختاً لكل من قام بعمل نبيل .ورغم جسارة وشجاعة (الحُرة) فإن هناك شيئاً ليس بضئيل أبداً يبث الرعب في قلبها ويجعلها تجفل وتولي هاربة، تعيشه بينها وبين خفقات فؤادها، إلا انها تزجره وتلبسه لجاماً وقيداً ألبسه لها قومها، فلا يمكن أن تصدق هي ولا الآخرون بأنها قد ترتكب ما هو معاب أو يحيد عن العرف والعادات والتقاليد، إلا أن الأنثى تبقى أنثى في قلبها المحب، مهما بلغت الأحزمة التي تتمنطق بها، تقع (الحُرة) في متاهة العشق بين (بن ديانة الحمر) وهزاع ابن عشيرتها

(ابن ديانة) الذي اختار النغم بعزفه على آلة الهرومونيكا ليبوح لها بمشاعره. اختاره ليكون ذراعيه الذي يراقصها به، اختاره ليكون كفه التي تشتهي ملامسة واحدة لروايبها العنابية، اختاره لتبقى أهداب عينيها المنتسبة للظباء استراحته، اختاره ليختصر المسافة بين الخال والشفاه فيبلغ سدرة منتهاه .

(هزاع) ابن العشيرة الذي آثر الابتعاد والترحال للهروب من عشقها ، الصمت وكتمان حبه حتى يحين الأوان له .تدور الأحداث وتتعاقب السنون، إلا أن الغريب يرحل والأصيل باق .وبينما تجلس في خلوتها أعلى كثبان الرمل، يجيء صوت جدها (مبارك بالمجادي) عميقاً بعمق الغيب قائلاً: إنني أكاد أرى ذاك الثراء كيف سيطلق عنان الشهوات وكم أخشى أن تنهار أمام صهيلها وعذوها القيم والأعراف والعادات لتأخذنا إلى حيث لا نكون ولا نعرف .

لا يخفى على القارئ أن هذا العمل الروائي إذا أرنا تصنيفه على أنه من أدب الصحراء  سيكون جديراً بذلك، لما ضمّ بين جنباته تفاصيل حياة البدواة الأولى، صفات الشخصيات وطرق تعاملهم وتفكيرهم، ثباتهم على العادات والتقاليد المتوارثة، انتماءهم للأرض ومكوناتها، فهمهم لطبيعة الصحراء وتعايشهم مع تقلباتها،  لكنه هنا يندرج أيضاً في قالب مسماه أنه كشف “خفايا اللال” السراب وجاء تقريرياً، توثيقياً، التكرار في سرد الوقائع جاء للتوكيد أم للاستفاضة؟

تناثر السرد الروائي الشائق، وتقطعه بين صفحات العمل، ورغم قلته إلاانه جاء ليكسر حالة التوثيقيةا لتقريرية في القراءة.

عشبة ومطر

بعد روايتيها السابقتيين اللتين تمحورتا حول الحياة البدائية التي كان يعيشها سكان الإمارات، قبل اكتشاف النفط وبعده، تفاجؤنا الروائية بمناخ مختلف تماماً في روايتها الأخيرة (عشبة ومطر)، حيث تنتقل إلى الحياة المعاصرة لتشهد على التغيير الذي حصل في كافة المجالات، الاجتماعية، الاقتصادية، الحياتية، والأهم ما حصل عند الكثيرين الذين أصبحوا خاضعين للاستهلاك بشكل كبير.

تدور أحداث الرواية بين ثلاث شخصيات رئيسية: عشبة، مطر، وتيريزا

من خلال ما تبوح به كل شخصية على حدة، تشتبك مجريات الرواية ببعضها لتتضح معالمها وما بينهما من حيوات وأفكار حتى تؤدي الرواية غرضها في إيصال رسالتها للقارئ.

عشبة

 والتي أطلقتُ عليها بدوري اسم (الأرض) بمعناها الواسع، الحاضنة للجذور، المتمسكة بأصولها وقيمها الراسخة، السيدة الرصينة، المتعلمة، المثقفة، المتقدة ذكاءً وحكمة.صاحبة العقل المتزن، الراجح. تفرق بين الغثّ والسمين، التي لم تجرّها ثروتها الكبيرة إلى عالم الاستهلاك والتقليد الأعمى، التي كلما سمعت أصوات الأحفاد بألسنتهم الملتوية إلى الانجليزية وجهلهم بلغتهم الأم، يصيبها الغثيان.

تقول عشبة عن سبب انعزالها وإنطوائها: (نعم إنها عزلتي الاختيارية المتزامنة مع عزلتي القسرية، وإذا أردت مزيداً من الدقة، فالأصح أنني منسحبة من مجتمعي، حتى لا أتلوث بوحل الطفرات الاجتماعية التي خلخلت بنية مجتمعنا، فكلما ولدت طفرة مفاجئة باعدتني سبعين ذراعاً، فكيف يريدون من الاقتراب ونبذ الانزواء وكل الوجوه التي أعرف أصبحت مسطحة بلا ملامح أطوف بينها، أفتش عن قسماتها، التي مسختها المباضع والإبر، ولا أرى سوى تورمات مقززة، فقدت جمالية تطور العمر وانعكاسه. كيف لا يريدونني أن أنزوي، وكل ذلك يثير مراراً بحلقي كرهت طعمه، وكرهت استهانتهم بعقلي، كرهت العلاقات المبنية على المصالح التي حلّت محل المحبة، كرهت كل زيف وتقززت من كل تملق مبني على المادة).

عشبة التي يحفر في قلبها فخر انتماءها للعروبة، صمتها وحزنها على ما آلت إليه بلدان الوطن العربي. عشبة التي أحبّت اقتناء الشالات النادرة الرهيفة المشغولة بأمهر الأيدي، تعيش على الذكريات وصوت الإيمان الراسخ بكل ما قامت به وتسعى إليه من محاولات للمحافظة على لغتها وعقيدتها والاحتفاظ بموروثها حتى تعالى ذاك الصوت فوق احتمالها فقتلها.

ماء السماء

الابن الذي شب على يدي تلك العشبة، والتي أرضعته تلافيف أفكارها، فكان الابن الفخر لها. مطر المهتم بالآثار كقيمة حضارية عتيقة، يجوب بقاع العالم باحثاً عنها. يؤكد من خلال بحثه الدؤوب ما فعلته الحروب من طمس لتلك الحضارات وسرقة آثارها مّزيّنة بها المتاحف العالمية للآثار. يقوده شغفه بها إلى الحب الذي يشبهه ليجده بين دفات آثار عتيقة لسيدة مجهولة، يبحث عنها كما يبحث عن قطعة نادرة، يسافر البلدان باحثاً عنها. وتكون قطعة (الخلال) حجر الملتقى بينهما .

تريزا

السيدة المساعدة في بيت مطر، التي وجدت إنسانيتها بينهم ، فكانت واحدة من العائلة بعد أن خذلها نكران عائلتها الأصلية لها. تريزا التي تثقفت على يد العشبة، تقوت بهم ،شدت أزر روحها بعد أن باغتها قلبها في شخص كشف لها عن نواياه (أطماع الأيدي العاملة) في التوسع والامتداد والمطالبة بالشراكة والتملك والاحتكار في كل شيء مع أبناء الوطن .