زنزانة إنفرادية ضيقة حطَّ فيها مجبرًا مثل طائرٍ فقد عشه فجأةً وتاه الطريق منه وعنه أو هرب الحظ من تلافيف اكمامه. هنا عالم آخر لا يشبه الخارج. الداخل فيه لا يعلم متى يخرج أو لا يخرج، فهو ليس مسجلًا في التقويم بل ربما موعد إطلاق حريته مثبت في الدفاتر السريّة فقط.
يتمكّن غريب بعد محاولات مستميتة من تسلّق جدار الزنزانة والإنقضاض مثل نسر على كوة الشبّاك العالي الملاصق للسقف. الشباك يطلُّ مباشرة على باحة السجناء الجنائيين الواسع. كم هو محظوظ أنه رياضي نوعًا ما وخفيف الوزن واستطاع أن يحقق ولو جُزيء بسيط من أمنيته بالقفز والوصول إلى كوة هذه النافذة.
جالسٌ وحيدًا هنا ولكن سعيدًا نسبيًا لأنه على الأقل يمتلك من خلال هذه الكوة جزءا بسيطَا من العالم.. يستطيع أن يتنفس من الأعلى ولو بعيونه التي تتنقل بين زاوية وأخرى ووجه وآخر. هذه الكوة السحرية بالنسبة له هي معبره إلى العالم الذي يخفونه عنه.
اليوم يوم عيد. يطير فكره إلى الخارج، يتخيّل العالم وهم يحتفلون، يرقصون، يأكلون ما لذ وطاب من المأكولات والحلويات. السجناء في الباحة الخارجية يتحركون ذهابًا وإيابًا ربما يتصنعون الإبتسام والفرح فلا خيار آخر أمامهم. إنهم أفضل منه حالَا على الأقل لأنهم يتحركون بحرية ويستنشقون رائحة أكثر نقاءً ويذهبون إلى الحمام في أي وقت يشاءون مثل البشر، أما هو فهو قابعٌ في زنزانته المظلمة الرطبة -التي هي حمّامه أيضًا- التي تشتهر بين السجناء باسم “أم البول” حيث تعلوها حمامات تتسرب منها السوائل إلى زنزانته.
ها هو الآن يشم العيد ولو من بعيد. عيد بأي حال عدتَ، دون وليمة أو حلويات. كم تمنى في تلك اللحظة أن يتذوّق شيئًا حلو المذاق، حلوى بحرينية مثلًا فهو يشعر بجفاف ومرارة في حلقه ويحتاج لأي شيء حلو او ربما زجاجة بيبسي باردة مثلًا ليكتمل الإحتفال.
متكومٌ، صامتٌ في جلسته غير المريحة لكن هنا اكثر رفاهية من قعر الزنزانة النتنة. يمر شرطيٌ أسفل نافذة زنزانته ويلتقي بشرطي آخر، هو يعرفه من وجهه أنه من سكان الحي الذي يعيش فيه، يفتح الشرطي الأول علبة حلوى ويقدمها إلى الشرطي الأخر الذي يقتطع قطعة كبيرة من الحلوى ويبتلعها بنهم وهو يبتسم ويتبعها بفنجان من القهوة العربية وهو جالس في الأعلى يحدّق بحنق وقهر إلى ما حدث أمامه. أيها الحقير تأكل الحلوى وحدك، انظر إلى الأعلى على الأقل فأنا من نفس الحي وربما تربطنا صلة قرابة ..انظر وأرأف بحال هذا المعتقل الحالم المحروم من طعم السكر اي سكر …أنظر وناولني قطعة ولو صغيرة من الحلوى. تجسّد الحلوى بل اقتحمها ولكن مع الأسف لم يستمتع بطعمها إلا بخياله الفنتازي. أي جوع للحلوى في تلك اللحظة. المشهد بالنسبة له تعذيب نفسي قاسٍ جدًا. آه من الحلوى عندما تكون قريبة منك وبينك وبينها قضبان.