عملَت الصحافة الأمريكية بمختلف وسائلها دائماً على احتكار الصوت والصورة، فهي الناطق الحصري باسمِ شعوب العالم وعلى هذه الحالة يتم تصوير الشعوب الأخرى وثقافاتها وأعرافها وعاداتها من زاوية حادة مختارة بعناية تهدف إلى خدمة المصالح السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة وكيانها اللقيط المتبوع بها؛ وبواسطة السيطرة على الصحافة ووسائل الإعلام يتم تشويه أو تقزيم الحركات التي تناضل من أجل الاستقلال والتحرر والديموقراطية في العالم الثالث أو مايعرف بدول الأطراف. تعَرّف هذه العملية بـ “الصناعة الثقافية” أو مايسميها أدوارد سعيد “الإمبريالية الإنثروبولوجية” أي احتكار ثقافات الشعوب الأخرى وتعريضها للاختزال والتسطيح ومن ثم التحدث بالنيابة عن تلك الشعوب أو باسمها، وهو الأمر الذي عمد سعيد الى نقده في دراسته الشهيرة “الإستشراق”.
جرى اختزال الإنتفاضة الفلسطينية منذ انطلاقتها الإولى على شاشات التلفزيون والصحافة الأمريكية وتصويرها على أنها مجرد أعمال تخريبية منفردة من رمي للحجارة والزجاجات الحارقة…الخ، وإن أخذوها على محل الجِد فهي إما فوضى أو أعمال تخريبية أو إرهاب. بينما هي في جوهرها أعمق من ذلك التسطيح بكثير، حيث يصفها إدوارد سعيد بأنها:”إبداع لكينونة سياسية رمزها الحجارة. إنها إبداع لقوة بديلة، لايمكن تشغيلها أو إطفائها” (ص 159)، إن الإنتفاضة تمثل بالتحديد قرار شعبي فلسطيني متصاعد رافض للعيش تحت نير الإحتلال وسوط انتهاكاته بدافع الطاقة الكامنة في إرادة الإستقلال عند الشعوب. ويضيف سعيد في حديثة عن فكرة الإنتفاضة:”إنها حركة ثقافية، تقول إننا لن نتعاون، ولا نستطيع الإستمرار بالعيش تحت الإحتلال، ولذلك علينا إعالة أنفسنا بأنفسنا” (ص 159).
وبالفعل، ابتكر الفلسطينيون طرق وأفكار بديلة في سبيل الاعتماد على النفس بدافعٍ من إرادة التحرر من جهة، وتضييق الاحتلال الخانق على كل شيء من جهة أخرى، كإغلاق المدارس الفلسطينية وصعوبة الحصول على الخدمات العامة مثل المستشفيات والمرافق الحكومية والإدارية والتي تتعلق بتنظيم الحياة الإجتماعية، والقضاء على الإقتصاد الفلسطيني وفرض شروط تعجيزية على الفلاحين في قطاع الزراعة ومصارة الأراضي الزراعية وبناء المستوطنات مكانها دون وجه حق. ابتكر الفلسطينيون بدائل عديدة ومتنوعة وإن كانت بسيطة ومحدودة، مثل: مراكز صحية بديلة، طرق تعليم بديلة، وسائل بناء وزراعة وفنون وطرق تواصل …الخ، وقد تبلور إنتاج هذه البدائل في حركات المقاومة التي بلغت ذروتها الآن وبعد عقود من الصبر والمحاولة، عملت المقاومة بجهد على التجربة والبحث وصولاً الى ابتكار السلاح البديل المعاد تصنيعه محلياً على قدر الإمكانات المتاحة تحت أصعب الظروف، وهو السلاح الذي أثبت جدارته وقوّته في حرب غزّة القائمة، إضافة الى أحد أهم إنجازات الثورة الفلسطينية كما يقول الخبراء هو إتقانها لشبكة اتصالات خاصة ومحلية لا سابق لها ولا تخضع لمراقبة الاحتلال، وكله عن طريق الإعتماد على النفس وعدم الإستسلام وابتكار أفكار بديلة دائماً.
ولا تكتمل سلسة الإنجازات دون الحديث عن شبكة الأنفاق الأسطورية التي لا يعرف الصديق ولا العدو من أين تبدأ وأين تنتهي. كل هذه الأوضاع كان من الفترض – وفقاً للحصار الخانق جداً – أن يسيطر الإحتلال عليها، إلا أن حصاره مخترق كُلياً. إنها إردة الإستقلال والتحرر إذا اجتمعت بشعبٍ عزيز لا يعرف الإنكسار. يقول سعيد:”ما نقوله، نحن الفلسطينيون، هو أننا بتنا نمارس تحريرنا وحق مصيرنا (…) المسألة الآن كما أراها، ليست ما إذا كانت الإنتفاضة ستتوقف، فهي لاتقبل الإلغاء. إنها عملية دفعتنا بشكل كبير في اتجاه إدراك الذات، والإستقلال، والتحرير الوطني.” (ص160)
على أن المنظومة الإعلامية الغربية الضخمة التي تحتكر الصوت والصورة وتروج للدعاية السياسية (البروباغاندا)، كلما زاد تطوّرها وحجمها وتشعبت، زادت هشاشتها وبالتالي من الممكن – بطريقة أو بأخرى – اختراقها واستغلال بعض مواضع الضعف فيها. يعتقد تشومسكي بأن تفكيك هذه الآلة الإمبريالية الضخمه واختراقها أمر مستحيل وبأنها تسيطر على المعلومات والتقنيات المتعلقة بالصحافة وبالشركات الإعلامية الكبرى التي من الفروض عليها أن تدعم إيديولوجيا الهيمنة. أما إدوارد سعيد فيرى أن هذه المنظومة مادامت موجودة عملياً، فمن الممكن تفكيكها أو توجيهها لاستخدامات وأهداف مختلفة، يقول:”بغض النظر عن مدى هيمنة جهاز ما، ليس بوسعه الهيمنة على كل شيء. يبدو لي ذلك التعريف الأساسي للعملية الإجتمتعية” (ص161). لابد من وجود طرق وبدائل مبتكرة للتدخل تحدث من داخل المجتمع تعمل على إعادة توجيه تلك المنظومة أو جزء منها، وليس عليك أن تبدأ من الصفر أي أن تهدم المنظومة بأكملها بمعول نيشته – من هذا المنطلق يرى التفكيكيون استحالة الأمر- بل يتطلب الأمر -كما يقول سعيد- استغلال التطور المفرط لهذا الجهاز المهيمن وأن التدخل لكي يأتي ثماره لابد أن يكون محدد بشكل استراتيجي وفي لحظات معينة.
هذا الحوار الذي نقتبس منه أجراه إدوارد سعيد في العام 1993م ونشر في أوكسفورد، يبدو أنه استقرأ واقعنا الآن! مع ظهور وسائل التواصل بدا أنها تستهدف فئة الشباب والمراهقين عبر مشاركة صورهم وحياتهم اليومية ومغامراتهم وسفراتهم، لكن مع توسع الدائرة وازدياد الفئات العمرية للمتابعين دخلت ضمن دائرة وسائل التواصل فئات أخرى لها أدوار اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية وتعليمية الخ. هذا الأمر الذي تفاقم وتوسع زاد من هشاشة منظومة الهيمنة، فصرنا نسمع ونشاهد صوراً وخطابات ومطالبات من شتى مناطق العالم مختلفةً عن الخطاب السائد. صرنا نسمع صوت الآخر ونشاهد صورته كما يريد هوَ وبصوته هوَ لا كما تريد الآلة الإمبريالية. تفاقم الأمر كثيراً وبشكل تدريجي وبات خارجاً عن السيطرة إلا قليلاً. ومع تصاعد الحرب على غزّة صار بالإمكان وبطرق بسيطة أو معقدة تجاوز القيود والخوارزميات التي تحتكر توجه الناشر وتمنع المخالف.
إن القيد الذي فرضه التلفزيون والراديو وحتى الصحافة المطبوعة سابقاً، انكسر اليوم مع تطوّر التكنولوجيا واكتشاف وسائل التواصل السريعة. نعم، العالم أصبح قرية صغيرة وبات من الصعب إخفاء الجرائم والمؤامرات وإلغاء السرديات وتضليل الحقائق كما في السابق. عمل الإعلام الغربي بكل ما أوتي من إمكانات وخبث على محو القضية الفلسطينية وتشويهها وشيطنتها والنيل منها، وإحدى أهم الوسائل المستخدمة كان الإعلام المضاد للحقيقة والصحافة المهيمنة؛ إلا أن الطرق الإستراتيجية المحددة واستغلال التناقضات العميقة في المجتمع جاءت بثمارها ولو بعد حين. عمل إدوارد سعيد بجهد لتثقيف العالم واستغلال ثغرات الجهاز المهيمن للتعريف بالقضية الفلسطينية ومشروعيتها وكذلك عمل على إكمال الصورة المجتزأة والمنقوصة وغير الواقعية عن فلسطين وشعبها، واليوم أبنائه وأحفاده على طريقته يصلون بالسردية الفلسطينية التاريخية الحقيقية إلى أقصى العالم من شرقه الى غربه. يقول سعيد: “في حالة الفلسطينيين، حيث الصورة المطروحة غير كاملة، بإمكانك محاولة إكمالها (….). قد تنتج عملية كهذه شخصاً مثلي، وطنياً فلسطينياً ملتزماً من جهة، لكنه بسبب تعليمه وانتماءاته الفكرية شخص من النخبة. اتحاد هذين الأمرين يجعل ظهوري ممكناً لأتدخل بالطرق التي حاولت التدخل بها. لا أقول إن ذلك هو كل شيء، أو أنه أحدث تغيراً مهماً جداً، لكنك تشعر على الأقل، بأنك قادر على مقاومة الهيمنة وتغيير الواقع، وأن تمنح نفسك وغيرك الأمل.”(ص162)، إن إرادة الإستقلال قوةٌ دافِعة ستظل تتصاعد باطِّراد مادام الاحتلال موجوداً، وأنه فعلياً بدأ يتفكك ويتضعضع.
*جميع الإقتباسات في المقال من كتاب: السُلطة والسياسة والثقافة/حوارات مع إدوارد سعيد، تقديم: غاوري فزواناثان، ترجمة نائلة قلقيلي/ دار الأداب الطبعة الثانية 2019