باسطاً كتاباً أمامه وكأنما يُهدّئ من روعه، وفي طرفٍ كوب شايٍ وبين أصابعه سيجارة، هكذا وجدته وهكذا تكررت صورته عندما كنا نرتاد مقرّ الصواري أول عهدنا.
تراه إما معالجاً لكتاب أو يقوم بجراحة لأوراق مبعثرة، بعد حين، وبعد صمت، يمدّ إليك رزمة: “فضّل!” – وهي تحوير لكلمة تفضل فاللغة عند السعداوي كالسينوغرافيا.
تقرأ وتتجاوز، لأن كثيراً مما كتب لم يُفهم – هو يعلم – وبعد ذلك: “ها بوي! شلون؟” الآن، يبدأ المشهد بالتشكّل.
تناقشت كثيراً معه، كنت كمن يسير في فلاة لا حدود لها، كان مُحرّضاً فكرياً من الطراز الأوّل، ومستفزّاً لقناعاتك ومسلّماتك وبديهياتك بلا نظير. لا نقاش يسير بهدوء مع السعداوي، وفي نهاية الأمر تخرج بمحصّلة مفادها بأن الدرس كان على وشك البدء ولكن الوقت قد تعب.
عملت معه في معظم أعماله للصواري، وتنقّلت بين صفوف محاربيه في معركة العرض، يوماً في المقدّمة ويوماً في القلب وأحيانأً مراسل الكتيبة لا أكثر، ولم يكن ذلك مهماً أبداً، فالنتيجة النهائية هي الفتح المسرحي الذي سيحصل على أيدينا مهما جفّت الحناجر وسال العرق، وأحياناً بعض الدماء أيضاً.
من الموجع أن ترى السعداوي يتحضّر للرحيل!
قبل زيارته الأخيرة لمحرابه المسرحي – الصواري – كنت أستشعر اعتزامه التخلّي عن الفضاء الأرضي والسفر بعيداً في ما وراء الوجود والامتداد الكوني. بطبيعته، كان معانداً يرفض التسليم والاستسلام، وكأني أسمعه: “لا أنحني لجبروت المرض!”
لكن المرض له شياطينه السبعين، ومتاهاته الألف، وكانت الحرب دون كيشوتية في معالمها، فالطواحين بعيدة والفرس منهكة والضباب يفرض العتمة على المشهد.
في تلك الزيارة بدا وكأنه مقاتل قد تلقي طعنة غادرة في الخاصرة، لا افتكاك منها، النهاية محتومة، ومشهد الخشبة العالية يتشكّل في مخيّلتي، ويا للأسف، صار واقعاً، ورفعناه على الخشبة، ولكنها ليست كتلك الخشبة التي خلق عليها عالماً سحرياً، بل خشبة كسكة حديد يمر عليها قطار الوداع.
وداعاً أيها المحارب العنيد.