عن كتابة المقال

0
12

شاركتُ ذات مرة في ندوةٍ حول ولادة المقال وتحديات الكتابة اليومية وذلك في شتاء عام 2006. كنا نعيش في معمان الحراك السياسي الذي انطلق بعد تدشين مشروع جلالة الملك الاصلاحي السياسي عام 2001 -2002، وكانت المواضيع كثيرة ومتنوعة والتنافس الإعلامي والسياسي بين عدة صحف على أشدّه، وكنا نكتب بسهولة ويسر وسلاسة، إذ تخففت حتى إدارات الصحف الرسمية وشبه الرسمية المحافظة والحذرة في ذلك، من كثير من القيود التي التزمت بها إبان سيادة مرحلة امن الدولة واجتهدت قدر المستطاع لمجاراة سقف الصحف الخاصة المرتفع نسبياً وغير المعهود في بلدنا لسنوات طوال.

من أين وكيف نستقي الأفكار والمواد التي تعيننا على كتابة المقال اليومي؟

الواقع إن أهم عامل ساعدنا على الكتابة اليومية هو الانفتاح الديموقراطي النسبي العام والذي طال كل شؤون الحياة حولنا، والذي انعكس على أحاديث المسؤولين والوزراء، وقد حظيت زاوية بريد القراء في تلك الفترة بمشاركات مختلفة وتوسعت واحتضنت أقلاماً جديدة وواعدة وغير مألوفة. هذه الصفحة بذاتها كانت أحد روافد كتابة المقال اليومي بالنسبة لي شخصياً، إذ أشرفت على الزاوية على مدى عامين، وكنتُ أتلقى الاتصالات الهاتفية والرسائل الورقية والإيميلات الإكترونية، فأختار تلك  الأكثر تشويقاً وغرابة، لأبدأ بها مقالي اليومي، وكثيراً ما تلقيتُ الرسائل من ربّات بيوت ورجال أميين يطرحون بعض إشكالات في حياتهم ومهنهم ويودون عرضها وسماع وحهة نظر المسؤولين والقرّاء حولها.

إن كتابة المقال تستدعي المتابعة اليومية للكاتب أو الصحفي لمختلف الشؤون المحلية والسياسية، لذا هي تقتضي القراءات المختلفة والمشاركة في الندوات وحضور المؤتمرات في الداخل والخارج وانفتاح الناس وإقبالهم على الكلام الأكثر جرأة وتحرراً، ومشاهدة الأفلام السينمائية وارتياد المجالس الحوارية، والواقع أن فتور الكتابة لدى كتاب المقال يبدأ حين يضعف الحراك السياسي والإعلامي، وتعود القبضة الأمنية لممارسة الضغوط تحت مبررات ومزاعم شتى. إن الصحافة العربية التقليدية ضربت في مقتل بعد أحداث الربيع العربي، إذ ارتفع منسوب الحسّ الأمني والعسكري وادارت مكاتب الاستخبارات العربية السردية الاعلامية والسياسية، وتخلصت الصحف من جميع كتّابها المشاكسين ملتمسة السلامة ومعتنقة مبدأ الحذر الشديد مع الجانب الرسمي، في أقلّ من شهرين، وبعد فضّ التظاهرات عدنا إلى ما كنا عليه، وانعكس الجمود والخوف على أغلب الصحف المؤسسية الخاصة والعامة فهرب الناس إلى عالم السوشيال ميديا الذي لم يكن أقل خطورة من الصحف الخاضعة للرقابة.

في مثل هذه الأجواء الملبدة بالخوف والحذر والرقابة الذاتية، من أين للكاتب أن يستقي مادة يومية للكتابة ؟  فهل يعتزل أم يجاري الوضع المتردي ويتقهقر ويطأطأ ويخفض رأسه للعاصفة – التي اعتقد كثيرون أنها مجرد برهة زمنية قصيرة – فإذا هي تمتد لسنوات، وخلال هذه الفترة كيف ننسى المزاج العام للناس الذي تغيّر هو الآخر بدرجة دراماتيكية، ولم يعد القراء يطربون لما اعتادوا عليه في المقاربات والتحليلات السياسية والاجتماعية والثقافية. تغيّر الحال، واستداروا بعيداً عن كتّابهم وصحفهم المألوفة، وصار على الكاتب القديم، المخضرم أوالجديد، أن يبذل مجهوداً أعظم لاستعادة القرّاء الذين كان يعرفهم، ناهيك عن اكتساب شرائح جديدة منهم.

وفي تلك الندوة في ذلك المساء الجميل،  حيث انتشى  الحضور بالحوار والتشارك الخلّاق والتفاعل الحيوي والتحدث وجهاً لوجه مع كتّاب الصحف المعروفين في ذلك الوقت، قلت: إن أسئلة الجمهور ومقارباتهم وتبادلهم الرأي الحرّ الجريء مع الكتّاب هي بحد ذاتها عوامل مُحفزة ومُشجعة وملهمة للكاتب.

لحظات مثل هذه، تعد دافعة وموّلدة لعشرات المقالات المستقبلية، لحظات نفتقدها اليوم ونخسر كثيراً لإنعدامها.