هل مات السعداوي أم قُتل؟

0
295

” فيلم روائي طويل جداً جداً جداً”

حسين العريبي

المشهد قبل الأخير / المقبرة

في المشهد: مصطفى رشيد، محمد رضوان، حسين الرفاعي، جمعان الرويعي. “الرعيل الأول” لقد سجي السعداوي تواً لمثواه الأخير، وبعد مراسم الدفن وقف الأربعة متقابلين على شكل هندسي معين، نظروا إلى بعضهم شهقوا شهقة طويلة وقعت أعين كل منهم على الآخر وكأن في الصمت زمن يربو إلى الأربعين عاماً. المشهد صامت لكنه مشبع بالمعاني، نظروا إلى بعضهم في صمت يفوق كل الكلمات إن الجملة التي لم تقال: أهذا كل شيء؟!

المشهد الأول / شارع داخلي في منطقة الرفاع

في مرحلة ما من مراحل الستينات المأثورة كان السعداوي ومجموعة من رفاقه يؤسسون لحراك ثقافي ومسرحي في نادي الرفاع. هي محاولات طريّة لم ترصصها بعض سنوات التجربة، وفي خضم هذا الحراك العام الذي يبدو انه كان محفوفاً بالتمرد قاد السعداوي مظاهرة في أحد شوارع الرفاع مطالبة ببناء “مسبح” في الرفاع. هذه الحادثة هي ما شكلت لاحقاً مسيرة السعداوي الظاهرة الاستثنائية التي يحتفي بها في هذا العدد من شهرية “التقدمي” لقد أدت تلك المظاهرة إلى تصاعد لم يكن محسوباً نتج عنه مغادرة السعداوي للبلاد لتبدأ بعد ذلك حقبة جديدة من حياة السعداوي الغنية بالتجارب.

المشهد الثالث / التنقل بين الدوحة والشارقة

ركب السعداوي السلم الأخير في سلالم الطائرة المتجهة من مطار البحرين في المحرق إلى مطار الدوحة، وفي العتبة الأخيرة التفت السعداوي التفاتة أخيرة إلى سماء البحرين قبل أن تقلع الطائرة إلى رحلة مجهولة لم يكتب المشهد الأخير منها بعد.

 في تاريخ قريب من سنة 1970 سافر السعداوي إلى الدوحة ليؤسس مسرح السد مع الفنان القطري غانم السليطي، والفنان البحريني مبارك خميس، والفنانة البحرينية مريم الراشد. بعد ذلك انتقل إلى الشارقة في العام 1975 ليؤسس مسرح الشارقة مع الفنانين عبد الله المناعي، ومحمد عبد الرحمن، وعلي خميس. هناك أرادت الحياة أن ترسم للسعداوي مساراً مختلفاً. هناك تشكلت بذور – السعداوي الظاهرة -، تعرّف السعداوي بالمخرج الكويتي صقر الرشود، والمخرجين العراقيين عوني كرومي وإبراهيم جلال، حيث فتحت له تجربته معهم بعداً فلسفياً للمسرح يتجاوز التطهير والتسلية، ليصل إلى فضاءات أوسع تحمل في طياتها أبعاداً فلسفية لا متناهية، من خلال هذين المخرجين تعرّف السعداوي بنوابغ القرن العشرين أمثال: ستانسلافسكي، وغرتفوسكي، ومايرخولد، وبريخت.  من هناك بدأ شغف السعداوي بالبحث والتجريب.

المشهد الرابع / العودة

في شارع داخلي من شوارع أحياء مدينة عيسى القديمة تلاقت إرادة السعداوي بإرادة مجموعة من المجاميع الشابة الذين وجدوا في نادي مدينة عيسى ملاذاً لهم في ظل احتكار الحركة المسرحية من قبل المسارح الأهلية التقليدية وبشخوصها المحتكرة للحركة المسرحية.

في العام 1986 وبعد عامين من عودته إلى البحرين، تشكّلت نواة مختبر عبد الله السعداوي المسرحي، هناك بدأ السعداوي ينسج خيوط قوقعته أو لنقل فرقته الناسكة. اجتمعت إرادة السعداوي بفضول مجموعة من الفتية والشباب الذين فتحوا صدورهم العارية للسعداوي يدعمهم العضو الإداري النافذ في نادي مدينة عيسى أحمد جاسم.  في نادي مدينة عيسى آمن الجميع بالسعداوي تركوه يحلق بهم إلى فضاء واسع، إلى تجربة مختلفة تشبه في ملامحها بيئة الفرق المسرحية المحترفة حيث خصصت كل يوم ساعات طوال للمشاهدة، والنقاش، والقراءة، والتدريبات والتأمل.  تلك التجربة هي ما أفرزت أسماء كان لها باعها الطويل في الحركة المسرحية بعد ذلك أمثال: محمد رضوان، مصطفى رشيد، حسين الرفاعي، جمعان الرويعي، سلمان العريبي، حسن منصور، وآخرين. هناك توّج السعداوي أهم مراحل تجربته وأخرج مجموعة من أروع أعماله: “الرجال والبحر”، “الصديقان”، “الجاثوم”، “الرهائن”. كان كل ذلك يتم وسط تهكم وسخرية وتشكك العديد من الشخصيات البارزة في الحركة المسرحية البحرينية.

المشهد الخامس/ الجائزة

في العام 1991، شارك السعداوي رفيقيه إبراهيم خلفان ويوسف الحمدان في تأسيس مسرح الصواري. ليصبح السعداوي أباً روحياً وملهماً لثالث فرقة أهلية مسرحية تتأسس في البحرين. قرر مسرح الصواري رسم هوية واضحة منذ تأسيسه بتبنيه المسار التجريبي والمعاصر. كان السعداوي ورفاقه يسلكون دربهم والتهكم والتشكيك في تجربتهم ما يزال مستمراً، حتى ان هنالك من قال إن السعداوي يخترع أسماء من خياله ويضع في نهايتها حروف “سكي” وهو تندر ينم عن جهل باستشهاد السعداوي أثناء نقاشه وتحليله بنهجي ستانسلافسكي وغرتفوسكي المسرحييين.

من أعاد للسعداوي اعتباره؟

لم يعد للسعداوي اعتباره جهة رسمية أو أهلية، بل جهة لا تمت للبحرين بصلة في واقع الأمر. كان ذلك عندما حصد عبد الله السعداوي جائزة أفضل إخراج في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي ليكون أول مخرج عربي ينال هذه الجائزة وسط منافسة مئات الفرق والتجارب المسرحية المتطورة من شرق العالم وغربه.

المشهد السادس/ اليأس

بعد أن اكتسبت عروض السعداوي وفرقة مسرح الصواري سمعة عالمية، شهد النصف الثاني من التسعينات حالة من التقهقر والتراجع. تزامن ذلك مع تنامي الإنتاج الدرامي التلفزيوني الذي جعل العديد من كوادر مسرح الصواري تنصرف إلى التلفزيون لا من باب الشهرة كما قد يفهم من هذه السطور وإنما طلباً للرزق حيث كان العمل في المسارح الأهلية وما زال تطوعياً وبدون أجر.  وفي حين يأس العديدون في ظل منظومة رسمية قاتلة للمسرح والإبداع، كان السعداوي وحده مرابطاً في مكانه متمسكاً بأحلامه، قارئاً، وكاتباً، ومخرجاً، ومستفزاً للنقاش والمعرفة.

المشهد السابع / ديمقراطية السوق

السعداوي متوسطاً صالة مقر مسرح الصواري في العدلية، مجموعة من الشباب تمور في أروقة المقر. السعداوي يقابل كل من يمر أمام ناظره بسؤال متكرر وبأسلوبه الكارتوني المضحك: اشرايك في الديمقراطية؟

لا ينتظر السعداوي لكي يسمع الجواب. إن سؤاله أشبه بمناورة خبيثة، ينهال من السعداوي بعدها سيل من اللكمات.. أو عفواً الكلمات: ” عن أي ديمقراطية تتحدث.. عن ديمقراطية السوق (…) هذه الديمقراطية التي ستأتي لنا بالشركات المتعددة الجنسيات”.

كرّس السعداوي العقدين الأخيرين من مسيرته المسرحية، في توجيه النقد اللاذع للحضارة الغربية، وإلى النظام العالمي الجديد والوجه القبيح للإمبريالية المعولمة، وفي نخر جوف شعارات “العالم المتحضر”. لقد تحوّل السعداوي من الرمزية والجمالية إلى الواقعية والمباشرة.

المشهد الأخير/ هل مات السعداوي أم قتل؟

أغلق القبر ونثر التراب – مات عبد الله السعداوي- تاركاً ورائه أرثاً ثقيلاً. السعداوي هو الفقيد الأخير لمسرح الصواري، لقد مات كثرٌ قبله معنوياً، دفنت مواهب كان لها أن تشكّل نقلة في مسيرة الصواري الاستثنائية. إن السعداوي الزاهد في الحياة كان شخصية استثنائية لم تمتلك أي مطامع دنيوية سوى المسرح، إن كل من يبكي السعداوي إنما يبكي الإيثار والتفاني والإخلاص للتجربة، في ظل واقع مرير تقتلع جذور المسرح لتبنى مكانه قواعد خرسانية رمادية مقيتة، أخشى أن يكون السعداوي المحارب الأخير.

 لم يقتل السعداوي إنما مات كمداً.