فلسطين .. القضية التى أسقطت القناع عن القناع

0
63

لم نجد، لم نسمع، لم نقرأ فى تاريخ الحروب ان ارتدى جنود ملابس النساء ودخلوا المستشفيات يقتلون ويعتقلون من فيها من مرضى وجرحى من الشباب، وقبل ذلك وبعده قيام جنود بقطع الكهرباء والماء والأدوية عن الناس، وقبل ذلك وبعده يرتكبون مجازر وإبادات جماعية وإعدامات ميدانية بحق النساء والأطفال والشيوخ، ويدمرون المدارس والمستشفيات ويمنعون ادخال المساعدات الإنسانية، ويجعلون العديد من المناطق كما لو أنها عادت إلى ما وصُف بالعصر الحجري فى صورة ستبقى من أسود الصفحات التى يسطرها المحتلون.

 لم نجد، ولم نسمع، ولم نقرأ ان أنتهكت كل القوانين الدولية والإنسانية كما أنتهكت على النحو الذى شهدناه على مدى شهور. يكفى القول إنها وصلت إلى أقصى درجات الانتهاك، كما لم يسبق أن شهدت البشرية فى كل الحروب بشاعة وفظاعة حالات من اذلال البشر، بل وظهر من اعتبر سكان غزة مجرد “حيوانات فى صورة بشر”،  كما ظهر من يسرق أعضاء جثامين شهداء: قرنية عين او نخاع شوكي وأعضاء اخرى وهو ما كشف عنه أحد الأطباء فى أحد المستشفيات حين تحدث عن التشوهات التى لحقت بجثامين القتلى والشهداء، حيث فعلوا ذلك بكثير من الإتقان .

كما لم نشهد حرباً شعواء على وكالة دولية تقدّم خدمات إنسانية وتتولى دوراً رئيسياً وتاريخياً فى مساعدة الشعب الفلسطيني فى الأراضي المحتلة ومخيمات اللاجئين منذ النكبة، وتعتبر شريان الحياة لأكثر من 2 مليون إنسان، وهي التى وصفت بأنها أكثر بكثير من مجرد منظمة اغاثة، بل إنها إلى جانب ذلك تمثل التزاماً من جانب المجتمع الدولي تجاه اللاجئين الفلسطينيين وحافزاً لوجود منظمات إنسانية أخرى فى غزة قطع التمويل عنها من امريكا ودول غربية وتوابعهما، دول صدّعت رؤوسنا بتمسكها بكل معاني ومبادئ الإنسانية وحقوق الإنسان لتصبح هذه الوكالة شاهدة وشهيدة فى آن واحد .. شاهدة على وجود احتلال واضطهاد شعب، وشاهدة على حقائق مذهلة ومفزعة على اكثر من صعيد عبّر عن احداها النائب الجمهوري الأمريكى بريان ماست رداً على ذلك الموقف من الأونروا حين قال “إننا نريد رؤيتهم يموتون جوعاً، فلا وجود لفلسطينيين أبرياء فى العالم”، وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الوكالة شهيدة لازدواجية المعايير والخلل الفادح فى معاني ومعايير العدل والإنسانية والحقوق وكل الشعارات التى يسوقّها المسمى مجتمعاً دولياً، وليس من قبيل المبالغة حين اعتبر ذلك الموقف من الأونروا بأنه بمثابة السم القاتل لحق العودة.

ولم نجد، ولم نشهد كل هذا الحجم الذى شهدناه من حملات تضليل وتشويه وخداع إعلامي من قبل من وجدوا فى الحرب على غزة فرصة لهذه الحملات من اجل الاسترزاق والشهرة والثراء، ومن أبرز هؤلاء تلك الجماعات التى ظهرت لنا في “الفضاء الإليكتروني العام” وبعض القنوات التليفزيونية بصفات “محللين استراتيجيين”، وتارة بصفة “محللين سياسيين” أو “خبراء عسكريين”، هؤلاء وحتى بافتراض حسن النوايا عند بعضهم لم يكونوا سوى مضللين، يتبادلون الأدوار، ويكملون بعضهم بعضاً، يلعبون بالكلمات، يكذبون، يروجون لأكاذيبهم فى مؤامرات خفية تستهدف التضليل وتشويه الحقائق والهدف التطبيع والمسالمة مع الكيان الصهيوني .

لم نجد ، ولم نشهد ، ولم نسمع ان جيوشاً نظامية حتى فى ظل أشد الحروب بشاعة ودموية وهمجية ان استهدفت بشكل مباشر الصحفيين الذين اصبحوا بين شاهد وشهيد ، ولا الأطفال وهم يقتلون مع سبق الإصرار تتبعثر أشلاءهم فى حارات وشوارع غزة ، مما يضع جنود الاحتلال فى خانة مجرمى حرب دموية غير مسبوقة ، كما لم نجد ولم نشهد ولم نسمع هذا الكم من التوحش الذى تجلى فى محاولة التخلص من خدمات وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين ” الأونروا ” يرقى إلى مستوى الشراكة فى الإبادة الجماعية وتجاهل لأوامر محكمة العدل الدولية التى قضت بضرورة اتخاذ التدابير الفورية والفعالة لإدخال وتوفير المساعدات إلى قطاع غزة.

ولم نجد، ولم نسمع، ولم نقرأ عن اجتماعات ولقاءات ومؤتمرات على كل المستويات وفى اكثر من بلد تنعقد تحت عناوين “هدنة إنسانية” أو “المساعدة على وقف الحرب” ، أو “نصرة الشعب الفلسطيني” ، دون الخروج بنتائج لها اثر، وكم وجدنا تصريحات ومبادرات لبعض من يبحثون عن دور وهم يطلقون جعجعات وشعارات توحي بأن هناك من يعمل على دعم ومساندة القضية الفلسطينية، وذهب البعض الى القول بأنه لا يمكن ان يقفوا موقف المتفرجين، وهم فى الحقيقة يُكذبون على أنفسهم، او انهم أعجز من ان يحققوا شيئاً، يضاف إليهم حثالة من المطبعين والمتصهينين سراً وعلانية الذين ارتضوا التبعية والإذلال وانخرطوا بحصار أهل غزة وقتلهم جوعاً ومرضاً وحصاراّ، وليصبح موقف تلك الدول احد أوجه مساهمتها فى الحرب.

وأخيراً وليس آخراً لم نجد موقفاً حازماً او قراراً ملزماً من محكمة العدل الدولية فى لاهاي يضع حداً لسلسلة عمليات الإبادة الهمجية، وبدلاً من ذلك كانت هناك دعوة، مجرد دعوة الى إطلاق النار وكل العمليات التى يمكن أن تندرج تحت عنوان جرائم الإبادة من تهجير وحصار وقتل جماعي وتدمير مساكن وبنى تحتية. صحيح أن الأراء والمواقف والتحليلات وردود الفعل قد تباينت، فهناك من وصف القرار بأنه تاريخي، وهناك من وصفه بإنه يمثل درجة من الإنصاف وليس إنتصاراً حاسماً، وهناك من اعتبر القرار بأنه مهم ومفصلي أفقد الكيان الصهيونى الحصانة وجعله لأول مرة فى تاريخه منذ نكبة 1948 فى موقف المساءلة بل الإدانة ووضع حداً لتهربه الدائم من المساءلة حتى ان كانت مدعومة من عدد من دول الفيتو وغيرها.

 دعونا نتمعن فى كيفية تفاوت قرارات المحكمة الدولية بين الحرب الروسية الأوكرانية والحرب الاسرائيلة على غزة، فبالنسبة للحرب الأولى قالت المحكمة إنها “تشعر بقلق عميق ازاء استخدام القوة الروسية الذى يثير مشاكل خطيرة جداً بالقانون الدولي” وأعلنت قرارها “يجب أن تعلق روسيا الاتحادية فوراً العمليات العسكرية التى بدأتها فى 24 فبراير 2022 على أراضي أوكرانيا” ، اما بالنسبة للحرب الثانية فان المحكمة قالت “يجب على إسرائيل ان تتخذ التدابير فى حدود سلطتها لمنع ومعاقبة التحريض العلني على ارتكاب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، وإن على إسرائيل أن ترفع تقريراً إلى المحكمة بخصوص التدابير المؤقتة المفروضة خلال شهر”.

إلا انه بصرف النظر عن توقعاتنا أو عن أي وصف أو رأي أو تحليل يتصل بالقرار إلا أنه أُخذ علية عدم تضمنيه قراراً مباشراً بالوقف الفورى للأعمال الحربية، وبالرغم من ذلك وجدنا نتنياهو وجماعته ينتقدون المحكمة ووصفوها بأنها “لا سامية” وذهبوا الى وصف الاتهام بأن القرار “شائن وأن الإدعاء بأن إسرائيل تنفذ جريمة إبادة شعب هو ليس كذباً فحسب، بل مثير للامتعاض، واستعداد المحكمة لمناقشة تهمة الإبادة هو وصمة عار لن تمحي على مرّ الأجيال، ويجب على كل الأشخاص المحترمين فى كل مكان أن يرفضوه”، وفى الوقت ذاته وجدنا المتحدث باسم الخارجية الأمريكية يقول: “إن إتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية فى غزة لا أساس له من الصحة، وأن العدد الحقيقي للقتلى المدنيين هو صفر” وكأن ما يقع أمام مسمع ومرأى العالم على مدى أشهر لتصفية شعب غزة من نسج الخيال ..! ، وفى شأن المحكمة الدولية لابد من توجيه الشكر لجنوب أفريقيا فهبتها جرجرت إسرائيل رغماً عن أنفها إلى محكمة دولية وهو أمر أكدّ بأنه ليس مقبولاً اي حلول تنظر بدونية للشعب الفلسطيني، بينما تنظر بفوقية للاحتلال، ليس من المنطق ولا الأخلاق، ولا القيم ، ولاشيئ من ذلك.

إن القضية الفلسطينية لم تكن واضحة كما هى عليه اليوم، فقد عادت إلى الحياة بعد موت سريرى ظلّ لسنوات طويلة ظننا خلالها بأن القضية لن تعود إلى الحياة مرة اخرى، كما هو واضح انه لم يعد هناك متسعاً للعناوين والشعارات والعناوين التى تقفز الى الواجهة عند كل لقاء او اجتماع او مؤتمر قمة، تتحدث عن كل شيئ ولا تقول ولا تفعل شيئاً .. وطالما باتت الأمور على المكشوف سيكون من الخطأ النظر إلى ما يجرى من منظار ضيّق يتجاهل أن غزة هى ضمن القضية المركزية للعرب التى بات هناك على المكشوف أيضاً ومن أنظمة عديدة، منها وللأسف أنظمة عربية من لا يريد أن تكون هذه القضية ان تكون مركزية، بل يريدون لنا بالرغم من كل ذلك أن نعيش زمن التطبيع مع إسرائيل، الزمن الذى قال عنه نزار قبانى قبل سنوات بأنه “زمن يهجم علينا، بكل سماسرته، وشيكاته، ومافياته.. زمن تتناثر فيه الضمائر، والسماسرة يعدون الوثائق الرسمية لبيع التاريخ، بعد تجريدنا من آخر ورقة توت نستر بها أجسادنا .” هل يمكن أن يحدث أسوأ مما نحن فيه فى هذا الزمن الذى تتساقط فيه الأقنعة عن الأقنعة ..؟!