من الكلمات المهمة التي تعرفت عليها في عالم السينما، والتي تناولت مسألة الاختلاف بين الثقافات والحضارات، هي مقولة: «الشرق هو الشرق»؛ تلك التي أشارت لها إحدى الشخصيات في أحد الأفلام. بعد ذالك، حاولت البحث عن إسم الفيلم الذي شاهدت فيه هذا الحوار، ولكنني لم أجده؛ مما دعاني هذا الأمر، إلى التحفيز والمتابعة أكثر، من أجل الوصول إلى معنى وسياق هذه الكلمة. وقد قادني ذالك – ومن خلال محركات البحث الإلكترونية – إلى الوصول إلى بعض المصادر، التي توضح المرجع الأصلي لهذه المقولة، وهو الكاتب والروائي الإنجليزي «روديارد كبلينغ».
يقول هذا الكاتب – وهو المولود في “الهند البريطانية” – أن الشرق والغرب لن يلتقيا أبداً. ونحن هنا، عندما نحاول تحليل هذه الكلمة، نجد أنها تحمل بعضاً من الدلالات الايجابية والأحكام النهائية في الوقت ذاته؛ ذالك أن تاريخ الأمم والحضارات، لا يستطيع المناورة على طبيعة الحياة الإنسانية، تلك التي تنتمي إلى «فلسفة» الصعود والهبوط، في سيرة الدول والمجتمعات والشعوب. وذالك أن مكامن القوّة والاستمرارية، قد تزايدت هنا وتراجعت هناك؛ مما جعلها تعتقد بغلبتها وقدرتها، في الهيمنة والسيطرة على زمام التاريخ.
(1)
عندما نحاول الإضاءة على أسباب الصعود والهبوط، قد لا نستطيع تعريفها بجميع مراحلها وتفاصيلها؛ ولكننا سنحاول قراءة جميع الدلالات الموجودة فيها، البنيوية والمادية والأيديولوجية. وإن مكامن القوّة الحقيقية – قد كانت في التحالف والتعاون – بين جميع هذه الأسباب، مما جعلها أن تكون في حالةٍ متفردة، من النفوذ والهيمنة والمكانة.
نعود من جديد لكلمة الكاتب الإنجليزي، في توصيفه بأن الشرق – سيبقى على ماهو عليه – ولن يلتقي مع الغرب أبداً. ونحن هنا، سنعمل على نقد الجزء الثاني من هذا الرأي؛ والذي يُطلق فيه حكماً نهائياً، على الشرق والثقافة الشرقية. ومن المثير للإستغراب – بل وأحياناً للغضب – أن التاريخ الإنساني للبشر، إنما هو حصيلةٌ لهذا التلاقح، بين الحضارات والثقافات المختلفة، من خلال القيم البشرية والإنسانية فيما بينها. وهذا الكلام، بالتأكيد، ليس نقداً لاذعاً إلى الكاتب؛ بل هو نقدٌ للأفكار والمفاهيم، التي تعيش أكثر من الإنسان بكثير، وتحمل من التأثير والمكانة؛ مما تجعل من صاحبها وقائلها، موجوداً ومؤثراً في هذه الحياة؛ حتى لو أنه – أي صاحبها – قد غادرها جسداً.
(2)
ليس بوسع كاتب هذه السطور، أن يختصر تاريخ الشرق والمشرق – الكبير والمترامي – في بضع كلماتٍ وأفكارٍ من هنا وهناك. ولكنني سأتحدث عن السياق التاريخي، والذي كان مزدوجاً مابين السلطة والثقافة من جهة، وتأثيرات الجغرافيا والقيم الدينية من جهةٍ ثانية. وسنبدأ من الجغرافيا، وهي العامل الأقدم والأقوى في التكوين الشرقي، حيث أن هذه البقعة الجغرافية – من حيث الوجود البشري – كانت موجودةً ومنتظمةً بحكم الأسباب الفطرية والطبيعية للحياة. أما العامل الثاني في تاريخ هذا المشرق، فهو ظهور الأديان السماوية، والتي نعرفها بالأديان الثلاثة. وإنها قد أتت في مراحل زمنيةٍ مختلفة، من أجل تأسيس وتأكيد فكرة «التوحيد» بين الإنسان والخالق؛ في سياق التكامل الروحي بين البشر والمعتقدات. ولا أزعم هنا، بالمعرفة العميقة بالشأن الديني، ولكنني سأحاول تقديم الغاية الإنسانية، على أنها القاعدة الإيجابية والأولى، لدور الدين ومكانته في حياة الإنسان. الإنسان الموجود والكائن في الشرق تحديداً.
إن هذه المقدّمة البسيطة، هي نوعٌ من التعريف بالخلفية التاريخية لثقافة الشرق وأساسياته؛ والتي سنحاول أن نبحث عن اختلافاتها أو تشابهها، بين ثقافات الأمم الأخرى، الغرب منها تحديداً. وعند الحديث عن الشرق، نقصد بالشرق العربي أولاً، لأننا ننتمي إليه ونعرفه أكثر من غيره – وهو الذي أتمـنَّاه حقاً – ومن ثم نأتي إلى الشرق عموماً، أي إلى الشرق المنتمي إلى قارة آسيا؛ والتي كانت تاريخياً وثقافياً – بحسب معرفتي – قريبةً ومتشابهةً، مع ثقافة أهل الشرق والمشرق العربي.
(3)
إن الإهتمام بقراءة فصول التاريخ، ليس دعوةً من أجل تمجيده والتفاخر به؛ بل هو عنوانٌ واسعٌ للتطوير والتعلُّم والاستفادة، من التجارب الذاتية، وتجارب الآخر أيضاً؛ من أجل بحث وتقييم المنهج الأمثل والأفضل لهذه الحياة. وتجارب التاريخ الإنساني، ليست محصورةً فقط في الغرب والثقافة الأوروبية، بل بثقافات العالم الأخرى أيضاْ، ومن الأقرب إلى الأبعد.
ولأن عالمنا العصري والراهن – أو بالأحرى بسياساته – قد قادتنا نحو هذه المنزلقات الخطيرة والكارثية؛ والتي رأيناها جميعاً في (جائحة الكورونا)، وأيضاً في أزمة التغـيُّر المناخي، التي تهـدّد البشر والكائنات، في الحاضر والمستقبل؛ بسبب سياسات الغطرسة والأنانية، لدى منظومة الإستغلال والهيمنة، من خلال تكريس مفاهيم المادية السلبية – بل المادية الآلية – تلك المستأثرة بالمصالح العامة، للطبيعة والبشر.
(4)
مجدداً، الشرق والغرب.. وهما – بحسب تقديري – ميزان العالم الإنساني، وأحد مقاييس العلوم والحداثة والتقدّم فيه. ذالك أن التاريخ العربيّ، في القرون الماضية، كان عنواناً للتنوير والفلسفة والعلوم الإنسانية؛ في الطب والاجتماع والرياضيات والأدب. وجميع هذه العلوم، هي المركز والأساس، للرقي والحداثة التي وصل لها البشر اليوم. والفضل هنا، يعود وحده؛ إلى قيم العقل والتطور والتفكير، التي تعمل على زيادة الخير والإرتقاء في حياة الإنسان. وعند الإشارة إلى التاريخ العربيّ، فإننا نذكره هنا إشارةً وتوصيفاً، مع تقديم الجانب الإنساني والبشري في ذالك؛ متجاوزين بذالك عن العصبية التقليدية، لأفضلية هذه الأمة على تلك. ولأن تاريخ الإنسان الأسمى، يرتقي حقاً، من خلال قيم التعاون والمصالح المشتركة؛ مُـرتقياً عن سياسات الإلغاء والتهميش، العرقية والثقافية، وصولاً إلى الطبقية منها والإستبدادية.
(5)
الجميل والمهمّ في التاريخ – التاريخ الحقيقي والموثوق – أنه محايد، عادل، ولا يقبل التزييف بسهولة. وهذا الكلام، هو البداية الضرورية والإيجابية، عند الوصول لقراءة فصول التراجع العربي، على المستوى الثقافي والفكري تحديداً؛ مع عدم تجاهل الأحوال السياسية لتلك المراحل الزمنية، أي أحوال الحريات والأنظمة، وأيضاً الاشتغالات الفكرية والثقافية.
إن الصعود والهبوط، والتقدّم والتراجع، في تاريخ الدول والمجتمعات؛ يجب أن يكون منهجاً طبيعياً عند القيام بحالات المراجعة النقدية – تلك الواعية والمخلصة – لأحوال الدولة والمجتمع والإنسان. وهذه الكلمات الأخيرة، تدعوني للإشارة، إلى الفليسوف والعالم ابن رشد، الذي تمَّ احراق كتبه ومؤلفاته وترجماته؛ بعد تراجع التنوير وصعود المفاهيم الجامدة، تلك التي يعكسها الانغلاق الفكري والتشـدد الديني. وقد شاهدنا ذالك، في الفيلم المصري: «المصير»، والذي تمَّ عرضه في العام 1997، مُضيئاً على سيرة هذا الرجل، والتي تتشابه سيرته؛ مع أزمة التجديد الفكري والإجتماعي، في الحياة العربية الحالية.
لا بأس إذاً – عند قراءة ومعرفة المشهد التاريخي – في الشرق خصوصاً وفي الغرب عموماً، أن نواجه أسباب ومعاني الإنحدار والتراجع، في توجهاتنا الفكرية والعلمية والإبداعية. وأزمة الجمود التي ترافقت كثيراً مع الثقافة الشرقية، والتي عكستها عناوين «الصبر والخضوع»، وأيضاً التسليم بالظلم والإستبداد؛ وتعميم مفاهيم الإحتيال والمسايرة على المصلحة العامة؛ مما ساهمت في إنحدار المجتمع وأخلاقياته. وإن الظروف التاريخية، للأحوال المشرقية، من نُظُمٍ وسياساتٍ وثقافات؛ تحتاج أيضاً لتلك الدراسة العلمية والاجتماعية والتاريخية، من أجل أن لا نتجاوز الحقائق نحو التزييف أو المبالغة. والصدق والمصارحة، هو أحد المقاييس الهادفة التي ترتقي من خلالها المجتمعات والأوطان، في الشرق وفي الغرب.
ولأن عالم اليوم – المتداخل والمتشابك – قد أوضح لنا الكثير من الأمور والمعالم، التي كانت محجوبةً عـنَّـا في الماضي – ومن خلال وسائل التواصل الحديثة – في السياسة والاقتصاد والثقافة والبيئة والإهتمامات العصرية؛ إضافةً إلى المذاهب الفكرية والفلسفية، التي تبوح بمنهجها وآرائها، من أجل تقديم وإثبات نفسها في هذا العالم.
(6)
مهمة البحث في الأسباب ودراسة التاريخ – بالنسبة لنا كمشرقيين وعرب – يمنحنا حافزاً مهماً، عند العمل على تطوير وتحديث خطوات التقدّم والنهضة. نعم، إن النهضة في أوطاننا موجودةٌ وقائمة، بفضل الأساسيات الحضارية والضرورية؛ تلك التي عكستها مركزية الحكومة وسلطة الدولة، وأيضاً الحداثة النفطية وثمراتها الايجابية، في التحوّل بدولنا ومجتمعاتنا، سياسياً واقتصادياً ومعيشياً، نحو الأفضل. ولكن، بالمقابل، لدينا الكثير من المرواحات التي تحتاج مـنَّا الحسم والوضوح والمسؤولية؛ أولها في مفاهيم العادات والتقاليد ومعاني التجديد للمجتمع والإنسان؛ وأيضاً مواجهة الإزدواجية الموجودة، بين الإنحدار الأخلاقي والإلتزام الديني. ولا ننسى في هذا الشأن، التأكيد على أهمية ومكانة المرأة، في تقدير دورها الإنساني في المجتمعات؛ من خلال تأسيس مفهوم وثقافة النصف الآخر عند تربية الأبناء. هؤلاء الأبناء، الذين يحتاجون حقاً إلى القيم الهادفة ومعاني تكوين الشخصية؛ التي تجعلهم جديرين فعلاً، في فهم وإدراك حقيقة المرأة ودورها، في زيادة الخير والإنسانية، للمجتمع والحياة.
(7)
نستكمل من جديد، غاية المقولة وأهداف المقال، في التنوير على المراحل الغربية والأوروبية، من مسارات التحديث والنهضة. والذي قد توصلنا إليه، بإن الحضارة الأوروبية – وصلت لما وصلت إليه – بعد مواصلة مشروع التقدّم العلمي والثقافي، من التاريخ العربي ورموزه وثقافته، وأيضاً من التاريخ الغربي وتراثه وثقافته. وإن المعنى الذي نصل إليه هنا، هو مفهوم التكامل بين الأمم والثقافات المختلفة؛ من أجل استلهام العلوم والمعارف الجديدة. ونحن إذ نؤكد – عن دور العلم ومكانته – فإننا نقصد طبعاً بالمعنى النبيل والإيجابي، أي الذي يهدف لخير البشر والإرتقاء بهم، نحو الخير والتقدّم والهناء.
(8)
لقد تحدثنا في الفقرات السابقة، من أن تاريخنا العربي، قد شهد صعوداً للإتجاهات الفكرية الجامدة، ذات الموروث الثقافي المناهض للتنوير.. وقد حصل نفس الشيئ في التاريخ الأوروبي، عندما ساد الإتجاه الديني، الخاضع للكنيسة وللغيبيات الدينية، متجاوزين بذالك – وبوسائل القمع المتشـددة – عن دور المفكرين والفلاسفة في الشؤون الدنيوية والعصرية؛ آخذين بمنهجية التسليم والجمود، لأحوال الحياة المتجددة.
إن النهضة الغربية والأوروبية – والتي سارت عبر المراحل والعقود الطويلة – لم تصل إليها بتلك السهولة أبداً؛ بل من خلال مساراتٍ طويلةٍ من التحديث والتطوير، في المؤسسات والأنظمة، السياسية منها والاقتصادية. وإن أوروبا اليوم، بل والعالم الحديث، يتجه نحو الرداءة والأزمات المعيشية؛ في ظل زيادة التحديات وتراجع الحكمة والمسؤولية، من قبل ساسة الدول الكبرى في العالم.
وإنني أعتذر حقاً، عن تكرار وتأكيد هذه المفاهيم المبدأية، مع يقيني الكبير بأهميتها وجدارتها، ولكنها – أي هذه المفاهيم – تحتاج إلى القوّة السياسية والعسكرية والعلمية، من أجل تطبيقها؛ في عالمٍ لا يحترم سوى الأقوياء. وإن هذه الحقيقة، ليست دعوةً للإستغراب؛ وقد قرأت في أحد المرات اقتباساً هادفاً، ولست متأكداً من قائله، ولكنه عظيم الجوهر، والذي نقرأه في هذه الكلمات التالية: «ما رأيت حقاً أشبه بالباطل، من حقٍ لا قـوة له». ونُضيف عليه اقتباساً آخر – معروف المصدر – للمفكر والكاتب الألماني جورج هيغل، والذي يقول فيه: «إذا كان الحق للقـوة، فمن الحكمة ألا تكون ضعيفاً”.
(9)
الشرق والغرب، إذاً، يلتقيان في التاريخ والخلفية التاريخية، أي في التكوين والنشأة. وإن هذا الاستنتاج ليس طارئاً، عندما نقرأ سيرورة الطبيعية الإنسانية؛ من التراجع والتقدم، ومن الأزمات إلى النهوض. وإن الذي نحتاجه اليوم، هو قراءة جديدة للتاريخ – وبروح التعلُّم والإعتبار بدلاً من المرواغة والإستغلال – من أجل تمهيد الطريق نحو السياسات الإنسانية، التي تقوم على أساس التعاون والمصالح المشتركة؛ بين مختلف الدول والأقطاب والشعوب، في الشرق وفي الغرب.. وبين الخليج وقارة آسيا، وبين الدول الوازنة والمهمة، في الميزان العالمي الإيجابي والمنشود، من أمثال روسيا والصين ومجموعة البريكس.
نعم، إن الشرق والغرب، يلتقيان معاً في قصة الإنسانية وفكرة التطور، والذي لا زال حاضراً ومختلفاً بينهما؛ هو مكانة الأديان السماوية في جغرافيا الشرق والمشرق العربي، أي في تاريخه وثقافته. وأما الغرب، فقد توجه نحو المادية العلمية، المستقلة، الابتكارية، التي تتسلَّط على الطبيعة، وقد تجاوزت ذالك في الهيمنة والتسلُّط على الإنسان. وإن قائل هذه المقولة – أي الكاتب «روديارد كبلينغ» – قد عاصر تاريخاً صاعداً لا تغيب عنه الشمس، لوطنه بريطانيا والغرب عموماً؛ ولكنه لم يعاصر الأزمنة التي تليه، ولأن طبيعة التاريخ الإنساني، يستمرُّ دائماً في التغيير والدوران والتحرك.
(10)
في التاريخ الإنساني والبشري، وفي تاريخ السياسات والدول والأنظمة، ليس هنالك نهايةٌ دائمة؛ ولكن النهاية، التي نؤمن بأنها تستحقُّ البقاء فعلاً، هي تلك التي تنتمي إلى العدل والحكمة والمسؤولية، أي إلى احترام الأرض والطبيعة والتعددية الإنسانية. نعم، هذا هو اختبارنا الحقيقي والأصعب، بل والمنشود أيضاً. وإن التاريخ، لوحده، مَنْ سيكون كفيلاً، بعرض نتائجنا في المستقبل.