أسوأ وأشدّ أنواع الظلم هو الادعاء بأن هناك عدلاً، وحين يلعب الظالم دور الضحية ويتهم المظلوم بأنه ظالم، ويبقى المظلوم يعانى من ضراوة الظلم، حينها تصبح العدالة الهدف المستحيل الذى نفشل في تحقيقه كما يجب، فيصبح الممكن حينذاك – حتى الممكن – مستحيلاً .. وبذلك تتسع الظنون للظنون.
تلك هي الحقيقة المرّة، التي تقفز أمامنا بكل تجلياتها في مناسبة دولية اعتاد الناس في كل أنحاء العالم على الاحتفاء بها. قالت الأمم المتحدة إنها تستهدف “التذكير بالحاجة إلى مجتمعات اكثر عدلاً وإنصافاً .. مجتمعات يسود فيها السلام والأمن واشاعة احترام الإنسان”، إلا أن هذا الهدف لم نجد سوى ترجمة عكسية له على ارض الواقع، وأنّ ما يطرح في هذا الشأن ليس سوى شعارات لا تسمن ولا تغني، وهو الأمر الذى دقّ نواقيس خطر بدأت تدّق هنا وهناك، والصرخات ترتفع، وأصوات الاَلام والأنين أمام كل صور البشاعات والوقاحات تفتش عن أذن صاغية .. عن موقف صارم، عن وضع حدٍ لحالة التلاعب بالكلمات الميتة، والأكاذيب الأنيقة التي تدور من حولنا، وسوق الشعارات الذي يمضي بنا بين عبث وعبث، وكما قال محمود درويش قبل سنوات “أصبحنا نسرف في البحث عن عبث، لا نعلم من انتصر منا ومن انكسر.”
نتحدث عن العدالة الاجتماعية التي مرّ يومها العالمي في 20 فبراير الماضي كما لم يمر من قبل، فالعالم الذى اعتاد في هذه المناسبة أن يستمع إلى معزوفات تذكّر بأبسط حقوق الانسان وبالحاجة الى بناء مجتمعات تسود فيها العدالة وإلى أهمية تعزيز مفاهيمها والاسترشاد بها في كل السياسات الوطنية والدولية، وتطالب بردم الفجوات الاجتماعية والاقتصادية الناشئة عن ازدياد عدم المساواة، مع خطابات وبيانات تنبه إلى أهمية وضع هدف تحقيق هذه العدالة في صدارة أولويات الدول والمجتمعات لبلوغ مجتمعات اكثر عدلاً وإنصافاً واستقراراً ووقف كل أوجه التربح من معاناة الشعوب، وتظهر الأمم المتحدة لتؤكد في هذه المناسبة بأنه لا غنى عن التنمية الاجتماعية والعدالة الاجتماعية لتحقيق السلام والأمن وصونهما واحترام حقوق الإنسان، امام هذه المعزوفات اثبت الشعب الفلسطيني في غزة ان العدالة التي يتغنى بها العالم في وادٍ والواقع في وادٍ آخر، وان هناك شعب قطعت عنه كل مقومات الحياة و كل وسائل العيش، وبات يعيش وأمام مرأى ومسمع العالم مأساة إنسانية عظيمة غير مسبوقة ويواجه انتهاكات جسيمة للعدالة، وكم هو صادم أن ردود فعل الدول التي تتشدق بالسلام والحريات وحقوق الانسان والعدالة ازاء هذه المأساة لم تكن أقل من الصدمة في الفعل الإسرائيلي ذاته المرتكب لانتهاكات جسيمة ضربت في الصميم كل تلك المبادئ والمفاهيم والأهداف، والدول صاحبة ردود الفعل هذه لا تريد للحرب ان تتوقف لأنها تغذيها وتتغذى عليها.
وإذا كانت مناسبة هذا العام قد جاءت متزامنة مع صدور تقرير الوضع الاجتماعي العالمي عنوانه “الدفع قدماً لتحقيق العدالة الاجتماعية” وهو الشعار الذى قد يعبر بالدرجة الأولى عن القلق من تفشي ظاهرة الفجوة الشديدة الخطورة في المقومات الأساسية للحياة من مسكن وعمل وتعليم وصحة، إلا ان المفارقة المذهلة والصادمة أن تأتى مناسبة هذا العام في وقت يشهد فيه العالم تلك الممارسات الإسرائيلية من إبادات جماعية، وحرب تجويع، ومجازر ضد البطون الفارغة آخرها ما تجلى في تلك المشاهد المروعة حين وقف مئات الجوعى بأجسامهم الهزيلة في طوابير طويلة ينتظرون وصول المساعدات الإنسانية ولكن الكيان الصهيوني أبى إلا أن يحوّل هذه المناسبة ودون سابق إنذار إلى فرصة لقصف هذه الطوابير ليسقط على الفور مئات من الشهداء والمصابين معظمهم من الأطفال والنساء، وهم يحملون الأواني التي كانوا يحلمون ان يضعوا فيها ما يسدّ رمقهم فامتلأت بدمائهم وأجزاء من اجسادهم في مجزرة جديدة وصفت ب “مجزرة البطون الفارغة “، وبلغت الوقاحة أوجها في التبرير الصهيوني الذى ورد في بيان ينفي قيام إسرائيل بالمجزرة ويعزو حدوثها إلى تدافع الفلسطينيين من اجل الحصول على الخبز، مجزرة تذكر الجميع بأن الصهيونية لا حدّ لجرائمها !.
تلك الممارسات وغيرها أوصلت منظومة المبادئ والمفاهيم المتعلقة بحقوق الإنسان والعدالة إلى درجة الإهدار الكامل دون التباس أو حرج أمام صمت وتخاذل المجتمع الدولي وعجز مؤسساته عن اتخاذ موقف رادع ازاء جرائم الاحتلال الاسرائيلي مما عرى زيف الدول التي تزعم تمسكها بحقوق الإنسان وأفقدها مصداقيتها حين تغاضت وتجاهلت ودعمت هذه الهمجية التي كنا نظنّ أنها بلغت ذروتها في مستوى الاجرام والتوحش من اغتيال وقتل وتدمير وتفنن في القمع والتنكيل والإذلال، ولكن دولة الكيان تثبت دوماً أن بمقدورها اقتراف المزيد من أشكال التوحش وبشكل مثير للفزع الحقيقي يندى له جبين الإنسانية حيال مشاهد ووقائع تضرب في الصميم كل معاني ومفاهيم العدالة الاجتماعية في ظل النكوص على الساحة العربية الرسمية غلب عليه الضعف و الانكفاء والتشرذم، إن لم يكن التخاذل الذى أشعرنا أنه يصل إلى حدّ التواطؤ الذى تتوارى خلفه كل الشعارات التي لا تهضم، حتى قمة عربية طارئة أو عاجلة لبلورة موقف عربي موحد لم يدعو أحد لعقدها، ولكن ماذا تراها تفعل القمة، وماذا تقدر أن تقرر، وماذا باستطاعة جامعة الدول العربية ان تفعل، تلك هي المسألة؟ّ!
أمام مجمل المشاهد التي ضربت كل مفاهيم وأسس العدالة الاجتماعية نجد العالم بغربه وشرقه وعربه يكتفي بالاستنكار اللفظي لكل ما يرتكبه الكيان الصهيوني، بل إن الولايات المتحدة منعت أكثر من مرة صدور بيان عن مجلس الأمن يدين المجازر التي يرتكبها هذا الكيان لتفتح الباب لهذا الكيان ليواصل اجرامه، وكم هي مفارقة حين يظهر وزير الخارجية الأمريكي وهو يطالب بالتصدي لخطاب الكراهية والخطابات اللاإنسانية، ومن تجليات المواقف الأمريكية الأخيرة الداعمة ذلك الاعتراض الأمريكي على تسمية القوات الاسرائيلية بالاسم في ما يتعلق بمسؤوليتها عن اطلاق النار على الفلسطينيين الذين تجمعوا للحصول على المساعدات، وكم هو وقح ذلك التبرير الذى أطلقه نائب السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة حين قال “إن المشكلة بالنسبة لنا أنه لا توجد لدينا كل الحقائق التي نريد الحصول عليها والتي تساعد في إيجاد لغة مشتركة بين جميع الأعضاء في مجلس الأمن وبطريقة تضمن لنا أننا تحققنا بشكل واضح من الحقائق ” ..!!!
ذلك موقف من جملة مواقف أمريكية يضاف اليها مواقف أوروبية عديدة كلها فتحت الباب بلا حساب للكيان الصهيوني ليمارس كل ما لا علاقة له من قريب أو بعيد بالإنسانية وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية التي سقطت في نعوش متتالية كهدايا في عدوان همجي وجد من يداري عليه
ويبرر حضوره ويكيل بمكيالين حين يشدد على حقوق الشعوب والأفراد، وعلى العدالة الاجتماعية ويتجاهلها أمام البشاعات الإسرائيلية التي تمارس على مرأى ومسمع الجميع من كيان فوق القانون أو كيان خارج القانون، كيان بحاجة إلى وضع حد له مثلما يوضع حد لأي مجرم يخرج عن القانون.
إلى متى تظل العدالة تبحث لها عن حضور، وهل يمكن أن يتحقق الحلم بأن يكون شعار المرحلة المقبلة “العدالة هي الحل” ..؟