سرت رجفة شديدة في بدني وأنا أقرأ رواية رضوى عاشور (الطنطُورية)، وصرت أغالب الأسى، أحاول التقاط أنفاسي المضطربة وأعصر دماغي بشدّة لتصوّر الأحداث في فلسطين قبل خمس وسبعين عاماً. تلخيص لحكايات طويلة، ممتدة من القهر والعذاب والمهانة والاعتداء والعدوان، حكاية وطن مُنتهك وبشر سُلبت كامل حقوقهم، حكاية غير قابلة للتلخيص.
هل كانت رضوى في هذه الرواية مصريّة أم أردنيّة أم لبنانيّة أم فلسطينيّة أم هي كل أولئك؟ سؤال مُحيّر فعلاً وفي نفس الوقت مثيراً للإعجاب لهذه المقدرة الفذة لمعرفة كل هذه التفاصيل، وفهم كل هذه الأماكن والبلدات والحارات والطرقات والمخيمات والأغاني والأهازيج والملابس والأكلات أيضاً. تُحدد الأمكنة وتنتقل إلى الأزمنة ومن تاريخ معلوم عن حدث ما إلى وقائع شخصية عن مناضل أو حركة أو فصيل من فصائل المقاومة سواء أكان فلسطينياً أم لبنانياً، تذكر القادة والزعماء تستحضر صورهم والأحداث المرافقة لهم، تستفيض في التفاصيل من خلال تجميع كل تلك الصور وتركيبها، وجمع الشهادات ومن ثم شرح مفصل دقيق عن كلّ حدث فكانت الوقائع هي النواة التي تنسج من حولها تفاصيل تلك المشاهد.
تستحضر اغتيال غسان كنفاني في بيروت بعد أن غادر بيته وركب سيارته فانفجرت السيارة فيه وفي ابنة أخته، وكذلك كمال ناصر وأبو يوسف النجار وكمال عدوان، وفي العام 1987 اغتيال رسام الكاريكاتير ناجي العلي في لندن. تستحضر جميع البلدات والقرى الفلسطينية، تُعرّفنا بالداخل الفلسطيني، المدن والقرى والبلدات: حيفا، صفورية، أم الفحم، جزّين، عكا، عرّابة، الناصرة، البعنة، يافا، سخنين، الّلد، دير القاسي، صفد، طبريا، الرامة، الجليل، الرملة، النقب، شفا عمرو، الطّنطُورة. هذه فلسطين المحتلة تختال بجمال هذه البلدات والأماكن التي سرقوها، بعد أن استولت عليها إسرائيل في العام 1947 بقرار مجحف من قبل الأمم المتحدة. فها هي الطّنطُورة كما تقول الكاتبة عنها “قرية على الساحل الفلسطيني، البحر والجزر والنخل والصبّار، الشاليهات، القوارب الشراعية، صيد السمك، ضريح الجريني، مصنع الزجاج”: “يا طنطوُرية بحرك عجايب/ يا ريت ينوبني من الحب نايب/ تحدفني موجة على صدر موجه/ والبحر هوجة والصيد مطايب/ أغسل هدومي وانشر همومي/ على شمسه طالعة وانا فيها دايب”.
تحدثنا رضوى عاشور في هذه الرواية عن كل الأهوال والمصائب التي حلّت بالفلسطينيين سواء من قبل العصابات الإسرائيلية (الهاجاناه وشتيرن وإتسيل) وغيرها من العصابات وما قاموا به من قتل واغتيالات واغتصاب وطرد الناس من بيوتهم وتدميرها والاستيلاء على المساكن وتخريب المنتوجات الزراعية وأخذ المحصول وإرغام الأهالي على الرحيل دون تمييز بين المسلم والمسيحي، يسرقون ما يجدونه من مال وحلّي، حتى أقراط الأذن ينتزعونها انتزاعاً”. أخذوا تنكتى الزيت والزيتون ونُصّية الجبن. جُردت أمي من خاتمها وقرطها وسلسالها، أخذوا حلّي النساء وما وجدوه من نقود” “سرقوا يافا وسمّوها تل أبيب”.
تستعيد رضوى عاشور ما جرى. الاشتباكات التي جرت وسقوط المدن وخروج الأهالي كأنها تنشر فلسطين كاملة أمام القراء فيروا بأم العين مقدار الدمار الحاصل لفلسطين وأهلها منذ عام 1947، وحتى الحروب اللاحقة والعدوان الثلاثي على مصر وحرب 1967، واحتلال سيناء والجولان وغزّة وخروج الفلسطينيين بعد الاجتياح الإسرائيلي، والمجازر التي قامت بها إسرائيل على إثر ذلك. الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1978 ثم الاجتياح الأكبر في 1982، والمذابح المرتكبة من قبل الكيان الصهيوني في مخيمي صبرا وشاتيلا واقتحام المنازل والمستشفيات وأبادت الجرحى والنساء والأطفال وقبل ذلك النضال الفلسطيني، ثورة الستة والثلاثين ومعارك السبعة والأربعين والثمانية والأربعين “كم حرب تتحمل حكاية واحدة؟ كم مجزرة؟ ثم كيف أربط الأشياء الصغيرة على أهميتها بأهوال عشناها جميعاً”. استشهاد عبد الرحيم محمود وما قاله من شعر في حب فلسطين: “سأحمل روحي على راحتي/ وألقي بها في مهاوي الردى/ فإما حياة تسرّ الصديق/ وإما ممات يغيظ العدا”.
كل ما ذكرته رضوى في هذه الرواية الصادرة في العام 2010 نجد له مثيلاً بالتمام والكمال بل يزيد أضعافاً مضاعفة له فيما يحدث لغزّة وباقي المدن الفلسطينية هذه الأيام. نفس الأسلوب ونفس النهج ونفس الإجرام، بل فاقه إجراماً. “الزاد كان شحيحاً، مات بعض المسنين، أما الرضّع يتساقطون بشكل غير مفهوم. كل يوم يموت رضيع وأحياناً رضيعان. دفنّا في الفريديس خمسة وعشرين طفلًا وربما ثلاثين”.
تسترسل من خلال شخوص الرواية في شرح سقوط البلدات واحدة تلو أخرى في أيدي تلك العصابات واستشهاد عبد القادر الحسيني والهجوم على دير ياسين وما قام به الصهاينة من ذبح لأهلها ومن ثم سقوط صفد ويافا وعكا وحيفا بعد أن مهّد الانتداب البريطاني ليحل محله اليهود في حكم فلسطين، لتغدو البلد دولة لليهود ويصير اسمها إسرائيل”.
والفلسطينيون وهم بعيدون عن الوطن أو في الجوار منه كانوا يتمثلونه ويستحضرون تفاصيله بكل وضوح “كانت الأرض تمتد من تحتنا. تربتها حمراء. وبيوت كمكعبات متناثرة تبعد قليلا عن الأسلاك الشائكة. أشبه بشاليهات المنتجعات السياحية ذات الحوائط الجاهزة. مطلية بالأبيض وسواتر نوافذها خشبية زرقاء. مستوطنة أم مجرد محطّة للجنود؟”.
وبعد هذا الاحتلال الإسرائيلي أصبح المواطن الفلسطيني مرتحلاً دوماً وأبداً من مكان إلى آخر في قافلة صارت هي الوطن، شعب دُفع به دفعاً إلى قاع السلم الاقتصادي والاجتماعي فعاشوا مغتربين عن وطنهم يواجهون المحتل برفع السلاح دفاعًا عن حقوقهم المسلوبة فظلت مقولة غسان كنفاني “أما عظماء فوق الأرض أو عظاماً تحت الأرض.. هاجسهم يتمثلونها دوماً يستذكونها ويحفظونها عن ظهر قلب ويدرّسونها لأبنائهم جيلاً بعد جيل حتى تحرير كامل التراب الفلسطيني وحتى تّفتح دورهم بالمفاتيح التي كانت مخبأة في صدور النساء الفلسطينيات كالتعويذة من أجل العودة إلى وطنهم المُغتصب.
دربتهم المحنة التي عاشوها والعذاب الذي يلاقونه يومياً على التعلق بقشّة الأمل للعودة إلى وطنهم، فالأيام تخفي ما تخفي، فإذا بالمستحيل ممكن على شعب خبر النضال والإرادة والصبر والبأس والشجاعة، وما صمود غزّة وشجاعة أهلها وبسالتهم إلا دليل على ذلك رغم ما يشهده العالم من الاختلال الأخلاقي، فبتنا نتساءل عما إذا لم يكن جنسنا البشري قد بلغ أوج قصوره الخلقي ونـحن نرى كل تلك الشعارات، كالحرية والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان تترنح وتشحب وتشرف على الانطفاء عندما يتعلق الأمر بالشعوب المغلوب على أمرها بعد أن تخلت تلك الدول عن احترام قيمها هي في علاقاتها مع الشعوب الأخرى وبذلك خانوا الإنسانية بدعمهم لدولة عنصرية استعمارية إرهابية كدولة الكيان الصهيوني وبذلك فقد عبدوا الطريق إلى الحرب والإبادة الجماعية التي أغرقت غزّة في الدم والدمار.