بعد الاستقلال وإنهاء الاستعمار في القرن العشرين، كانت دول الجنوب العالمي بحاجة ماسة إلى بنية تحتية وصناعة وتحسين اقتصادي، واعتمدت على الاستثمار الأجنبي، وركز هذا التمويل على البنية التحتية والصناعة، ولكنه أدى في بعض الأحيان إلى الاستغلال المنهجي، حيث تصدر دول الجنوب المواد الخام لدول الشمال ليصنعوا بعض الأرباح، ومن ثم تقوم دول الشمال بتصنيع منتجات من المواد الخام هذه ببيعها مرة أخرى لدول الجنوب بسعر أعلى، وقامت دول الشمال بتشغيل الأيدي العاملة من دول الجنوب بسبب قلة أجورهم، وهكذا استفاد الغرب بشكل كبير من هذا النظام، لكنه ترك دول الجنوب ضمن الدول النامية، وهذا النظام يسمى أحيانًا بالاستعمار الجديد، وهذا يعني وجود نظام تستفيد فيه الدول المتقدمة من الدول النامية، وهذا لا يعني الاستعمار بالمعنى الحقيقي والعسكري، إلا أنه يعني الاستغلال الشبيه بالاستعمار.
تم إنشاء العديد من المنظمات لوضع حد لهذا النظام مثل النظام الاقتصادي الدولي الجديد، حيث يتبعون سياسة “بدون قيود” التي تشجع الدول النامية على أن تصبح مكتفية ذاتيًا، ويدافعون عن حق دول الجنوب بالسيادة على مواردهم الطبيعية وعملية التصنيع، وتشمل القضايا التي تناقشها دول الجنوب العولمة والحوكمة الصحية العالمية والوقاية، بينما دول الشمال تناقش قضايا مثل الابتكارات في العلوم والتكنولوجيا، وكثيرًا ما تضغط تحالفات دول الجنوب مثل تحالف NIEO من أجل المساواة في المسرح العالمي، لكن صعود الصين اقتصاديًا وسياسيًا بشكل هائل غيّر الموازين.
تظهر أمامنا اليوم جملة من الحقائق التي لم يعد بالإمكان دحضها، فرغم أن الأرقام تكذب في أحيان كثيرة إلا أن المؤسسات الغربية تقدم اليوم مجموعة من البيانات التي تُظهر إلى حد بعيد واقعًا لم يعد بالإمكان إخفاؤه، فالغرب ورغم إصراره على أنه “سيّد العالم” بات مضطرًا للاعتراف بأنه تخلف عن الركب في كثير من الميادين، ومع ذلك تظل كل المعطيات بلا معنى بالنسبة لكثيرين، من ضمنهم عدد من الأنظمة والقوى السياسية في منطقتنا. ولم تتحول تلك المعطيات إلى ركن أساسي في تحليل الواقع العاصف الذي نعيشه.
ثمة تقرير اقتصادي يذكر أن إحدى هذه الحقائق التي أقرّها صندوق النقد الدولي تشير إلى أن اقتصادات مجموعة السبع لن تنجح في تحقيق نمو أكبر من 1.5% في أحسن الأحوال خلال العام الحالي، في الوقت الذي ستتمكن فيه الصين من تحقيق نموٍ يصل إلى 4.6٪ ، وإذا أخذنا أرقام 2023 مؤشرًا ينبغي لنا الانتباه إلى أن اقتصاد المكسيك مثلًا استطاع أن ينمو بنسبة 3.3٪، ونجحت الهند في تحقيق نمو بنسبة 7.6٪، وروسيا نمت 5.5 ٪، وتواصل إفريقيا فرض نفسها كواحدة من محركات النمو الاقتصادي العالمي، حيث من المتوقع أن تكون إحدى عشرة دولة من بين الدول العشرين الأسرع نموًا في العالم في عام 2024، وسجل الاقتصاد الإندونيسي نموًا بمعدل 5.04% سنويًا خلال الربع الأخير من العام الماضي، والاقتصاد الماليزي بمعدل 3.7%، ومن المتوقع أن يشهد الاقتصاد السعودي نموًا يصل إلى 5.5% لتصبح المملكة في المراكز المتقدمة عالميًا من حيث النمو الاقتصادي، وفقًا لوكالة “بلومبيرغ.”
تقدّم لنا أرقام كهذه جزءًا من المشهد العالمي وتثبت حقيقة أن “دول الجنوب” تقود منذ سنوات النمو العالمي، وهذا ما يفسر تنامي دورها السياسي على المستوى العالمي ويفسر بالضرورة تراجع الوزن الغربي في رسم السياسات العالمية.
يمكننا القول إذا أخذنا نظرة أشمل إلى ميادين أخرى، أن الأوزان الاقتصادية هذه بدأت تعبّر عن نفسها بالأوزان العسكرية، فلم يعد تقدمًا روسيا – في هذا المجال – موضع شك، وخصوصًا أن الصواريخ فرط الصوتية أصبحت جزءًا من ترسانة جيشها ولا يوجد مكافئ غربي لهذا السلاح حتى الآن، ما أعطى روسيا موقعًا متقدمًا، وربما تكون التقارير التي تقر بامتلاك الصين وعدد من دول الجنوب أسلحة متطورة مشابهة خير دليل على حجم التغيرات العالمية.
تبدو المشكلة اليوم بشكل واضح في منطقتنا، إذ تعترف معظم القوى بهذه الأرقام لكنها لا تستطيع تخيل أن كل ذلك يعني بالضرورة تراجعًا في دور الولايات المتحدة والغرب في محيطنا، وتخطئ مجددًا حين تسهو عن الكيان الصهيوني امتدادًا لهم، وأن أزمته في جوهرها هي أزمتهم ذاتها!
نشأت أجيال في العقود الماضية تقرّ بأننا نعيش في “القرن الأمريكي” وسلّمت بأن الولايات المتحدة تقود العالم، وغاب عنها أن المجتمع – كل مجتمع – لا يقف، بل يتطور. وأن “القرن الأمريكي” ما هو إلا ظاهرة تاريخية نشأت في ظروف أخرى. وهذا بالتحديد ما ينبغي أن يظل حاضرًا في الأذهان وأن يتحوّل إلى حقيقة، مثله مثل أرقام النمو!
About the author
كاتب بحريني وعضو التقدمي