ليست خافية العلاقة المُلتبسة بين تنظيم داعش الإرهابي وأجهزة استخبارات ومراكز نفوذ في بعض الدول، استخدمته لتنفيذ أجندات خاصة بها في صراعها على النفوذ. صحيحٌ أنّ “الداعشية”، قبل أن تكون تنظيماً مسلحاً سمّى نفسه “الدولة الإسلامية”، فكرة إرهابية تجلّت في صورة دموية بشعة رأيناها في العراق وسورية وغيرهما، وقد تتجلى في صور أخرى أيضاً، ناعمة، لكنها لا تقلّ خطورة، إن لم تكن الأخطر، لأنها تحمل في ثناياها البذور المنتجة للإرهاب في أشدّ صوره دمويّة وبشاعة.
سيقول قائلون، وفي قولهم كثير من وجاهة، “نحنُ من ربّينا “داعش” من خلال ما حملته كثير من مناهجنا التعليمية من تكفير وتسفيه للرأي الآخر وقمع للاجتهاد الحرّ، ومن خلال ما نشره بعض من يوصفون بـ”الدعاة” ممن حرّضوا الشباب على إلقاء أنفسهم إلى التهلكة، فسُلّموا إلى القوى والمحاور التي وظّفتهم شرّ توظيف. لكن الفكرة المتطرّفة التي ينطلق منها التنظيم لم يكن بوسعها أن تتحوّل تلقائياً إلى تنظيم مسلح بإمكانات لوجستية مكّنته من السيطرة على مناطق شاسعة في العراق وسورية، والتمدّد إلى بلدان أخرى، لولا دعم المستفيدين من خدماته، سواء باتّصال مباشر مع قيادته، أو عبر اختراق صفوفه بإتقان. صنعوا التنظيم ولم يصنع نفسه، ولا يمكن إغفال حقيقة أن التنظيم، مُقدّماً نفسه “دولة خلافة إسلامية”، لم يعلن أي عمليةٍ ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، سواء في الضفة الغربية أم غزّة، قبل 7 أكتوبر وبعده.
قد تحين اللحظة التي تتكشّف فيها بعض (أو كل) ملابسات خلق هذا التنظيم المرعب وتمويله وتسليحه، وتسهيل تمدّده وبسط نفوذه في أراضٍ شاسعة. أما ظاهر الحقائق نفسها فهو معروفٌ حتى عند بسطاء الناس، منذ نشأ التنظيم الذي أريد له أن يكون قاطرة لما يخطّط لحال المنطقة بعده.
رغم هزائم مُني بها التنظيم في سورية والعراق، وما لحق به من خسائر، فإن ملفّ “داعش” لم يُوجد ليُطوى، وإنما ليظلّ مفتوحاً حتى يجني ثماره من صنعه وموّله وسلّحه، ووفّر له ما يحتاج إليه من معلومات استخبارية ضرورية ليستقطب في صفوفه الآلاف المؤلفة من مقاتلين تدفقوا إلى أماكن سيطرته، من بلدان عربية وغير عربية، بينها بلدان في وسط آسيا كانت يوماً في عداد جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، ومنها طاجكستان المحاذية لأفغانستان، وإليها ينتمي الأفراد المتورّطون في المجزرة التي أعلن التنظيم مسؤوليته عنها في قاعة للحفلات الموسيقية قرب موسكو، في 22 مارس/ آذار الحالي، ذهب ضحيتها 143 قتيلاً عدا عن الجرحى، وهي العملية التي لاحظ مراقبون أن توقيتها تزامن والذكرى الخامسة للقضاء على آخر معاقل التنظيم ودولته في سورية، بعد حربٍ خاضها ضده تحالف دولي واسع، لكن التنظيم لا يزال، بين حين وآخر، يشنّ هجمات هنا وهناك، وأصبح العمال المهاجرون من دول آسيا الوسطى أكثر عرضة للتجنيد من الجماعات المتطرفة، بحسب ما يذهب إليه قاسم شاه إسكندروف، رئيس مركز دراسات أفغانستان، ومقرّه في عاصمة طاجكستان، دوشانبي.
شكّكت روسيا، في البداية على الأقل، في أن يكون “داعش” نفذّ المجزرة في موسكو، وهي أكبر هجوم إرهابي له في أوروبا، متهمة كييف واستخبارات غربية، لم تسمّها، بالتورط في العملية ربطاً بالحرب الجارية في أوكرانيا، ورغبة في إلحاق صدع بالجبهة الداخلية الروسية، خاصةً بعد الفوز الكاسح للرئيس بوتين في الانتخابات التي انتظمت قبل أيام، والتقدّم الميداني الذي حققته موسكو على جبهة القتال في أوكرانيا في الأسابيع الماضية. وبإلقاء القبض على المنفّذين، وعلى آخرين على صلة بالهجوم، يُتوقّع أن تكشف التحقيقات من يقف وراء الهجوم أو تُقدَّم على الأقل معطيات تكشف بعض المستور. قد يكون “داعش” هو الفاعل، لكن الأهم معرفة الجهات الضالعة في تقديم كل ما يلزم من أوجه الدعم والمساندة لتنفيذ عملية بهذا الحجم أوقعت ضحايا كثيرين. وكما في حالات مشابهة؛ فتّش عن المستفيد.