إن وجدت “مسرحية” في المواجهة الدائرة في المنطقة، فهي مسرحية “التعارض” المزعوم بين وجهتي النظر الأمريكية والإسرائيلية في طريقة إدارة هذه المواجهة، سواء تعلّق الأمر بالعدوان الصهيوني المستمر منذ شهور على قطاع غزّة، أو بتبادل الضربات بين إيران وإسرائيل. كلّ ما في الأمر أنّ لكلٍّ من نتنياهو وجو بايدن حسابات خاصّة متصلة بالوضع الداخلي، فالجنوح إلى هدنة في غزّة، كي لا نقول وقف العدوان عليها، فضلاً عن التهدئة مع طهران، سيفقد نتنياهو ورقته الأساس التي تبقيه رئيساً للحكومة في إسرائيل، في ظل استقطاب داخلي حرج، أججته أزمة الرهائن المحتجزين في غزّة، فيما بايدن على عتبة انتخابات رئاسية حاسمة قادمة بعد شهور، واستمرار العدوان على غزّة بالبشاعة التي يجري بها، ومخاطر انجرار المنطقة نحو حرب إقليمية شاملة، قد تضعف فرصته، هو الآخر، في البقاء بالبيت الأبيض أربع سنوات أخرى.
أيّ حديث عن تضارب أو تناقض في الرؤية بين واشنطن وتل أبيب مجرد وهم. هناك اتحاد في المصالح بينهما، راسخ واستراتيجي ومتين، وتنسيق وتعاون في تنفيذ المهام، حتى وإن بدا، ظاهراً، أنّ لكل من المتربعيّن على قمّة السلطة في البلدين، نتنياهو وبايدن، بعض الحسابات التي لا تنال من جوهر التحالف بينهما، وإنما تتصل بأمور شكلية ليس أكثر. فاجتياح أراضي غزّة وارتكاب ما يُرتكب فيها من فظائع، ما كان ممكناً لولا التغطية السياسية والدعم اللوجستي بكافة أوجهه من قبل إدارة بايدن، الذي هرع إلى تل أبيب بعد السابع من تشرين أول/ أكتوبر 2023 ليعلن دعمه المطلق وغير المحدود لإسرائيل، وليكرر عبارته الفظّة: “لو لم تكن هناك إسرائيل لكان علينا إيجادها”، ومثله قال وزير خارجيته، بلينكن، في أولى زياراته لتل أبيب بعد السابع من أكتوبر، إنه أتاها ليس فقط بصفته وزيراً لخارجية بلاده، وإنما أيضاً بصفته يهودياً. وواشنطن هي التي عطلت، باستخدام الفيتو، كل مساعي مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرارات بوقف الحرب، أو حتى الجنوح إلى هدنة مؤقتة.
آخر “الفيتوهات” الأمريكية المتصلة بالحقّ الفلسطيني كان تعطيل إرادة غالبية أعضاء مجلس الأمن الدولي بمنح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، رغم الدعم الساحق الذي ناله الاقتراح، علماً بأنّ 137 من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة اعترفت حتى اليوم بدولة فلسطين، ما يُظهر زيف كل ما يقال على ألسنة كبار المسؤولين الأمريكان عن تأييدهم لحل الدولتين، بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وسعيهم إليه، فكيف يستقيم ذلك مع تعطيل هذا القرار، وسط تحذير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس من انزلاق الشرق الأوسط إلى “نزاع إقليمي شامل”.
مثال آخر لا يقلّ بلاغة وجدناه في حجم الدعم العسكري الذي قدّمته واشنطن لإسرائيل في تصدّيها للهجوم الإيراني عليها رداً على استهدافها للقنصلية الإيرانية في دمشق التي قُتل فيها عدد من القادة العسكريين الإيرانيين، وهو استهداف قوبل بغضّ طرف أمريكي، فغالبية المُسيّرات والصواريخ الإيرانية أسقطت من قبل أمريكا وبريطانيا وفرنسا قبل بلوغها إسرائيل، وعن صحيفة “جيروزاليم يوست” العبرية تنقل “بي. بي. سي” ما قالته الكاتبة الإسرائيلية كوكي شويبر إيسان، “إنّ إسرائيل تمثل (جدار الحماية) للدول التي ساعدتها، وهو ما دفع هذه الدول لتغيير موقفها السابق للهجوم تجاه إسرائيل، فقبل بضعة أيام فقط، بدا أنّه تمّ التخلي عن إسرائيل من حلفائها، وتعرضت لـ “ازدراء” من جانب كل دولة على وجه الأرض تقريباً، حتى الولايات المتحدة انتقدت الطريقة التي تدار بها الحرب في غزّة.”
“ما حدث غيّر كل شيء”، تقول الكاتبة، مؤكدة “لسنا وحدنا في المعركة”. ثم عدّدت أوجه الدعم الذي حصلت عليها إسرائيل من الدول التي ذكرنا بعضها، حيث اعترضت عدداً كبيراً من الطائرات بدون طيّار أثناء تحليقها في اتجاه إسرائيل، بأنظمتها التكنولوجية المتقدمة”، وكأن واشنطن والمنخرطين معها في تحالف وأوجه تعاون، بددوا الوهم الذي يجري الترويج له عن “تعارض” في المواقف، فعندما يتعلق الأمر بما يصفونه “أمن إسرائيل”، فإنّ هؤلاء الحلفاء، بقيادة الولايات المتحدة، لن يترددوا عن الانخراط المباشر في المواجهة التي قد تدفع المنطقة نحو حربٍ إقليمية لن تُبقي ولن تذر، فليس المهم هو أمن المنطقة واستقرارها وسلامة شعوبها وحقّها في السيادة، وإنما حماية “الصنيعة” إسرائيل.