منحتني النظرة إلى عينيها السبيل إلى أفق بدون سماء، كانت نظراتها ذلك الأفق الذي لم أصله يوما إلا من خلال سؤال الكينونة والوجود، سؤال الحياة سؤال الحضور المتأرجح بين الحياة والموت…
لا أبحث في مقامي هذا عن جواب شافي لكنني أستجدي من يأسي المستعصي أملا يستجدي بدوره نظرة تفاؤل من أحلام استحالت كوابيسا مذ أن تسللت يد الألم إلى معابر الروح.
روحها، أم روحي أم روح الأمل التي لطالما دغدغتني بأناملها الحنونة، حنان أمي …
حنان قلبها الرؤوم وعطفها الكاسح لمعامي ذاتي…
تسمرتْ نظراتها الحزينة على شجرة اللبلاب المظللة للبيت الطيني..
بيت صغير بني على مشارف القرية المطلة على وادي ورغة…
ينحدر الوادي من منابع أم الربيع في شكل مذيل كأنه أفعى ضخمة تسللت في عنفوان من بين الصخور الصلبة والرمال الطينية الهشة …
أغرقت القوارير والأكياس على اختلاف ألوانها وأحجامها ضفاف الوادي في بؤرة مسحت جماله المستكين لمنسوب مياه منخفض والسبب ندرة المياه وشح الأمطار التي سلمت المنطقة لبؤس قميء كان المستفيد الوحيد منه بيوت نبتت كالفطر الأبيض على ضفاف الوادي، وأراضي سلمت أشجارها إلى الغَلَل الذي كان يغدق عليها بكرم بادخ…
كان جمال المكان يزيد مستواه كلما زاد منسوب المياه الذي يعلو بفضل التساقطات المطرية والثلجية، حيث تكنس هذه الأخيرة مخلفات الحيوانات النافقة والمتلاشيات التي تنوعت مكوناتها فيبين المكان عن شكله المشرق الجميل، شكل سرعان ما يلبس الوجه الآخر من العملة النقدية حينما تغضب الطبيعة ويغضب معها الوادي الذي يصل إلى ذروة ثورانه في فصل الأمطار الموسمية المباغتة حيث لا يكتفي هذا الأخير بتنظيف ضفافه من الأزبال والقاذورات وإنما يأخذ في طريقه كل ما يصادف أمامه من شجر وحجر وإنسان…
هذا دون أن ينسى الشكاك التي قضمت من أراضيه مساحات كبيرة…
كانت عادة الوادي في ذلك حتى يثبت للساكنة ولكل من تطاول على تاريخه وجغرافيته بأن للمكان حرمة يجب مراعاتها.. .
وسط هذه الطبيعة المتقلبة المزاج، راحت الفتاة تستعيد ذكريات تاريخ عمر لم تطفئ شمعته الواحدة بعد العشرين، وتقلبات جغرافية أحاسيسها التي أصابها الجدب بفعل أسباب التعرية.
تلك التعرية التي جاءت قبل أوانها…
تعرية غيرت معالم روحها بفعل الرياح الهوجاء والعواصف العاتية التي هبت على زواجها فأحالتها زوجة مع وقف التنفيذ…
امرأة مسلوبة الارادة تاهت بين عتمة النور ونور العتمة، وطفلة في حزنها الباذخ لم تعرف بعد الطريق إلى النضج النفسي بسبب قلة تجاربها في الحياة، تجارب كان من شأنها أن تعزز ثقتها بذاتها وتهبها القدرة على فهم أناها ومقارعة الآخر بعيدا عن كل المزايدات والتنازلات والمثبطات المادية والمعنوية…
وقفت إخلاص بئيسة، يائسة متحيرة تنظر إلى شجرة اللبلاب الواقفة في صمود وعنة أمام الأمطار الطوفانية والرياح الموسمية والعواصف الرعدية التي لم تنل من عنفوانها وصمودها…
كانت تعرف أنها شجرة صلبة أمعنت عروقها وتغلغلت في عمق الأرض، لذا كانت تحاول أن تستمد منها ومن نظرات طفلتها التي لم تبلغ بعد سنواتها الأربع القوة على مواجهة ومقاومة جحافل الأفكار المستسلمة لكمد أرخى بكل ثقله على روحها المرتمضة بسوء المعاملة وجور الأعراف التي منحت للذكر حق الوصاية وتقرير المصير…
استعادت الحسناء بأسف شديد ذكريات اليوم المشؤوم….
اليوم الذي تسلل فيه ذلك الغيهب إلى حياتها قصد الزواج من قاصر لم تكن قد بلغت بعد السن القانوني للزواج…
قاصر لم تخلع عنها بعد ثوب المدرسة الذي احبته أكثر من أي ثوب آخر…
بينما كانت الفتيات في مثل سنها يتوهمن حالمات بثوب أبيض يخلصهن من حياة البؤس والشقاء التي يكابدنها في بيوت أباءهن خصوصا في البوادي والقرى التي تفرض على الفتاة أسلوب حياة مجحف وظالم…
أسلوب فيه ما فيه من التمييز الجنسي بين الرجل والمرأة بما أن هذه الأخيرة خلقت في اعتقادهم لتعيش تحت الوصاية الذكورية للأب والأخ والزوج… وصاية بضمير المذكر الذي بات لا ضمير له في أغلب حالات الطلاق، بحيث يتنصل الزوج من التزاماته الدينية والاجتماعية والأخلاقية بدعوى قصر اليد ومحدودية الدخل والإمكانات، فتصبح المرأة المعيل والمربي والمسؤول الوحيد عن عائلة جمعها رباط قدسته السماء ولعنته شياطين الأرض.
كانت حياة إخلاص أشبه بزير ماء يروي ظمأ الآخرين، بينما تظل هي متلهفة لقطرة ماء تطفئ بها ظمأ أحاسيسها، وتروي بها عطش جسدها الذي أصبح مجرد آلة للتفريخ والعمل…
جسد نما وجفت عروقه قبل الوقت…
تماهى أساها مع ذكريات مضت وأخرى كانت تحلم فيها بتحطيم تلك القيود وذلك القفص الذي قالوا عنه قفصا ذهبيا…
قفصا دخلته مرغمة وخرجت منه ذات مساء عاصف…
كانت شجرة اللبلاب المظللة للبيت الطيني شاهدة على مصير فراشة أخرى من فراشات هذا الكون الفسيح التي اختارت الانعتاق والتحلل من لعنة الأرض، فضلت الانسحاب بهدوء بدل مواجهة ذلك الوضع الشاذ الذي سلبها آدميتها وإنسانيتها وتركها عرضة لعوامل التعرية والجفاف…
“سيان عندي إن تكلمتٌ، أو ضحكتٌ أو متُّ.
في عزلتي، العميقة، الحزينة، الموحشة،
وفمي لا بد أن يبقى مغلقا.
ها هو الربيع يا قلبي…
ها قد جاء وقت الفرح…
كيف أحلق بجناحي المهيض؟
كنت صامتة لفترة طويلة،
لكنني لم أنس الألحان أبدا…
في كل لحظة أهمس بالأغاني التي في صدري…
أمني نفسي في اليوم الذي أحطم فيه قفصي…
وأطير بعيدا عن عزلتي وأحزاني.. “
نادية أنجومانر* .
هامش
*نادية أنجومان هي شاعرة أفغانية ولدت في هرات سنة 1980، كانت طالبة موهوبة لكنها حرمت من التعليم هي والعديد من بنات جلدتها بسبب وجود حكومة طالبان في السلطة التي حاربت تعليم المرأة وقُيدت حريتها بشكل كبير. تلقت انجومان محاضرات من أساتذة جامعة هيرات تحت ستار تعلم الخياطة واستطاعت وهي في سن السادسة عشرة أن تجد الصوت الذي سيأسر آلاف القراء حيث أصدرت مجموعتها الأولى” زهرة من دخان” سنة2002، وكان من المقرر أن تنشر مجموعتها الثانية سنة 2006 “وفرة من القلق”، لكنها قتلت على يد زوجها الذي اعترف بضربها وأدين بقتل أنجومان، ورغم ذلك أخلي سبيله بعد شهر واحد من الحادث بسبب ضغوطات مورست على الأسرة من شيوخ القبائل.
دمت سالمة ايتها الغالية متألقة متلئلئة
أبدعتي أيتها المبدعة، بفضلك استطعنا أن نتعرف على الشاعرة نادية أنجومان، دمت دائما متألقة ، وبمزيد من التوفيق
ندعو الله ان يحفظك ويعينك على إمتاعنا بالمزيد من القصص الهادفة. متألقة كعادتك
هادفة في ققصك. متميزة متألقة كعادتك
متألقة كما عهدناك دائما ودمت كذلك بإذن الله
Comments are closed.